ثلاث مبدعين أحدهم فلسطيني وثانيهم لبناني وثالثهم فرنسي، جمع بينهم الانشغال بموضوع فلسطين على مدى عقود من البحث الفكري التأملي أو الوجداني والإبداعي باحوا، أمس الأحد ببيروت، ببعض من مكنونات خواطرهم وهم يكتبون عن فلسطين الإنسان والأرض والقضية. بنبرة واقعية تشاؤمية، استهل المؤرخ الفرنسي هنري لورنس من كوليج دو فرانس ، جلسة حوارية حول موضوع (فلسطين اليوم) على هامش المعرض الفرانكفوني للكتاب ببيروت (29 أكتوبر-7 نونبر)، باعتباره أن النظر إلى خريطة فلسطين كل عشر سنوات يقول كل شيء عن واقع الاحتلال والاستيطان وعمليات القضم والهدم والتوسع الإسرائيلي على حساب الأراضي الفلسطينية. وأضاف لورنس أنه انطلاقا من المنهجية التحقيبية، كما في كتابه (حرب لبنان) مع الصحافي اللبناني الراحل سمير قصير، تنشأ الثوابت والأمكنة (لندن، باريس، واشنطن، نيويورك،...) وتأويلاتها (وعد بلفور، قرار التقسيم،...). ودعا هنري لورنس إسرائيل إلى أن تجد حلا للتفاهم مع الفلسطينيين لأنه لا يمكن للمشروع الصهيوني البقاء دون طرد الفلسطينيين من أرضهم والاستحواذ عليها ، ولا يمكن لإسرائيل القضاء على الفلسطينيين، مذكرا بأن المأساة الإيرلندية استمرت لمدة سبعة قرون. وكانت صدرت لهنري لورنس عن دار (فايار) الفرنسية ثلاثة أجزاء من مصنف ضخم عن قضية فلسطين منذ قرنين من الزمن، ومن المرتقب أن يصدر الجزء الرابع في الربيع القادم على أن يصدر الجزآن الخامس فالسادس بعد ذلك. وهو لا يضمن أن تتوقف أجزاء كتابه عند جزئها السادس إذ أنه "لا يرى بعد نهاية النفق". وتحدث إلياس صنبر، سفير فلسطين لدى اليونسكو منذ العام 2006، في هذا اللقاء، عن كتابه (القاموس العاشق لفلسطين)، الصادر عن دار (بلون) الفرنسية في 477 صفحة، باعتباره ليس دليلا للسفر وإنما هو قاموس طبقا لتوالي الحروف الأبجدية، لكنه قاموس عاشق. يوضح صنبر ابن حيفا وابن النكبة، الذي هجر من مدينته رضيعا، أن (القاموس العاشق لفلسطين) "نص ذاتي لا يشفي غليل من يريد منه أن يغطي كامل فلسطين، لكنه يغطي كامل فلسطيني أنا، كما أراها"، مضيفا أنه وضعه بروحية الكتابة للذات وليس للآخر ولأنه كان يرغب ويحتاج لإضفاء الطابع الإنساني على القضية. قال إن الحديث عن الكتاب يجره إلى الحديث عن فلسطين، لكنه حديث مفارقة إذ أن الفلسطيني متعدد فهو عرب 1948 وفلسطيني 1967، وهو فلسطيني الشتات في أصقاع العالم، وهو اللاجيء وليس المنفي إلى البلاد العربية "إذ أن العربي لا يمكن أن يحس نفسه منفيا في أرض عربية". وأشار إلياس صنبر إلى الترحيل القسري الذي جعل الفلسطيني يغادر أرضه مجبرا ويضحي خارج الفضاء ويفقد الزمان، و"بما أن فقدان الفضاء يؤدي إلى فقدان الزمن فإنه بالتالي يؤدي إلى انعدام الوجود"، معتبرا أن مصطلح (ترانسفير) مخفف عمدا لإفراغ الأرض من سكانها على مدى العقود المنصرمة. ولخص صنبر الصراع في المسعى الفلسطيني الحثيث لاسترجاع الإسم وأنسنة الشخوص (وجود أم، طريقة حياة، ...) التي يتمحور هدف الفاشية في نزعها عن أعدائها، ف"الفلسطينيون ينظر إليهم عادة باعتبارهم أبطالا أو ضحايا أو هما معا ولكن ليس أبدا باعتبارهم أشخاصا عاديين"... وقال الروائي اللبناني إلياس خوري، الذي ازداد وأبوه وجده بحي الأشرفية ببيروت وما زال العديدون يسألونه: (هل أنت فلسطيني)، إن "فلسطين ليست قضية سياسية بل قضية حب". الفلسطينيون حاضرون في كل أعماله ابتداء من (الجبل الصغير) إلى ملحمة (باب الشمس) التي ترجمت إلى عشر لغات أوروبية وحازت على جائزة القدس. وأضاف أن فلسطين في غياب مستمر، وأن النكبة لم تحدث سنة 1948 بل هي ممتدة في الزمن ولا يمكن اكتشاف آلية الغياب المتواصل هذه إلا من خلال المقاربة العاشقة لفلسطين متحدثا عن محبة الفلسطينيين في روايته (باب الشمس) من خلال تسلل فلسطيني أجبره الاحتلال إلى الرحيل إلى لبنان، إلى وطنه ليرى امرأة يحبها ظلت بالجليل. ورفض أن تكون العلاقة بفلسطين علاقة يطبعها الحنين فحسب بل يتعين إعادة اختراع فلسطين واكتشاف المأساة الفلسطينية في اليومي الفلسطيني، مشيرا إلى أن الأدب يقوم في هذا السياق بدور مهم من قبيل رواية (عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني وشعر محمود درويش وذلك من خلال الكلمات وموسيقى الكلمات والصور الشعرية. ولم ينكر إلياس خوري دور الذاكرة فهي مهمة في نظره، لكنه استنكر أن يقام متحف للمأساة لأنها ما زالت متواصلة بأشكال وصور متعددة واعتبر أن الغالبين يكتبون التاريخ لكن المغلوبين و"هم في هذه الحالة الشهود العاجزون" يكتبون تواريخهم الصغيرة أيضا، والصراع قائم لم يحسم بين الكتابتين. ورأى أن إسرائيل لا تطرد الفلسطينيين من أرضهم فحسب بل من الأدب أيضا مستشهدا بالروائي الإسرائيلي عاموس أوز الذي كتب عن مدينة القدس في الثلاثينات دون أن يرد ذكر الفلسطينيين إلا قليلا فكأنهم لم يكونوا موجودين داعيا إلى البحث عن خطاب مقاومة جديد لعدو يرفض حتى الصيغ الاستسلامية لأن هدفه الإبعاد والطرد النهائيين. يشار إلى أن ريجيس دوبري، المفكر الفرنسي اليساري العائد من غزة، شكل الغائب الأكبر عن هذه الجلسة الحوارية كما كان مقررا، فحرم الحضور الكثيف بالتالي من الإنصات لمشاهداته وتحليلاته للوضع بالقطاع المحاصر لاسيما أنه كان من المرتقب، قبل أن يلغي دوبري موعده البيروتي، أن يوقع كتابه الإشكالي (رسالة إلى صديق إسرائيلي) الذي أثار حنق اللوبي الصهيوني في العالم.