قليلون أولئك الكُتّاب الذين لا يفضِّلون لعبة اقتفاء الأثر التي قد تغريهم بوضع الحافر على الحافر، وعدم الإتيان بشيء جديد في خاتمة المطاف. ومن هذه القلة النخبوية النادرة يتفرد الشاعر الأردني أمجد ناصر بمشروعه الجديد (النص المهجّن)، وهو التوصيف الذي نظّن بدقته وتطابقه مع مضمون (فرصة ثانية)، كتابه الإشكالي الجديد الذي أثار عدداً غير قليل من التساؤلات النقدية المهمة في الوسط الثقافي العربي. ولابد من التنويه إلى أن شكل الفرادة يتمثل في البنية الداخلية المركبّة التي تجمع بين الشعر من جهة، والأنماط السردية الأخرى المتعارف عليها كالسيرة الذاتية، والسيرة المكانية، والنص الحكائي وأدب الرحلات وغيرها من الأجناس السردية المألوفة. وحري بنا أن نشير إلى أن (فرصة ثانية) هو الكتاب الثاني في مشروعه الإبداعي الذي وسَمْناه قبل قليل ب (النص المهجّن)، فلقد سبق له أن أصدر كتاباً مهماً يحمل عنوان (حياة كسرد متقطّع) يتماهى فيه النَفَس الشعري بالانسيابية النثرية (القصصية على وجه التحديد) الذي أتاح بواسطته للقارئ العضوي أن يقرأ النصوص بوصفها قصائد سردية، أو قصصاً مفعمة بالمناخ الشعري. يحتاج النص المُهجَّن الى بنية مركبّة، أو معقدة ربما، لتستوعب هذه الأنواع الأدبية التي تجاوزت حدود التجاور إلى التلاقح الفعّال الذي يفضي في نهاية الأمر إلى تماهي هذه الأجناس مع بعضها البعض وتضافرها في صياغة نص جديد يستدعي قراءة نقدية مغايرة. في كل نص من النصوص الأدبية ثمة فكرة رئيسة تتيح للكاتب أن ينطلق منها لبناء فضاء النص، مهما طال أو قَصُر، قبل أن يصل إلى جملته الختامية التي يعتقد أنها أحاطت بالفكرة، وأشبعتها تحليلاً وتمحيصاً. والفكرة الرئيسة في هذا الكتاب تتمثل في الخاتم الآخر المختلف الذي اشتراه (من بائعة جوّالة قالت له إنه استفتاح كريم: خذه ولن تندم.) يبدو أن بنية النص تتكئ على هذا الخاتم المختلف الذي (ترى في حجره الأزرق الكابي صورةً جانبيةً لامرأةٍ مقرفصةٍ على هيئة غزالة معمِّرة.) ولابد أن تُحيلنا هذه المرأة المقرفصة التي تقمصّت هيئة الغزالة المعمِّرة إلى أم السارد العليم التي أمدّته بلغة عربية أصيلة كتلك اللغة التي كان يستعملها طرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم وزهير بن أبي سلمى. يسلط أمجد ناصر الضوء على البيئة الصحراوية حيث يعرّفنا على (السوسنة السوداء)، تلك الزهرة الارستقراطية المخملية الغريبة التي يحدث تفتّحها في قلب الصحراء ما يشبه (الاستراحة الملونة) وسط بحر ممتد من الرمال الصفراء التي لا يكسر رتابتها سوى بعض الأزهار والأعشاب البرية مثل القيصوم، ورِجل الحمامة، والشِيح، والجعدة، والبعثران والبابونج. وفي خضم هذا التقشف ينبري الكائن الصحراوي الذي يتحايل على الشمس حينما يرتدي ملابس ثقيلة في عز الصيف كي يحافظ على نسبة الماء في جسده. ثمة إحالات تنطوي على طابع مثيلوجي مثل الاحالة الى (الطائر الذي لا يُعرَف له اسم، يتبع بدأب مزعج، المقتربين من الهوّة، أو الموشكين على التحليق). هذه الاحالات التاريخية أو المثيولوجية، الحقيقية أو الفنتازية هي التي منحت قارئ النص المهجن لذة مضافة لا تتيح للرتابة أن تتسلل الى طبقات بنائها السردي المتنوع الذي يأسر القارئ ويأخذ بتلابيبه حقا. يأخذنا أمجد ناصر الى مضارب موغلة في القدم. ففي مستوطنة (عين غزال) التي يصل عمرها الى نحو عشرة آلاف سنة حيث تفاجئنا العيون القططية للتماثيل القديمة التي أدهشت الناظرين. ربما يتساءل البعض عن جوهر هذا النص المهجّن، وبنيته التحتية المراوغة التي لابد لها أن تقول شيئاً في خاتمة المطاف. وعلى الرغم من أهمية الجانب الموضوعي وسِعته التي غطّت مساحة الصحراء الأردنية، وتجاوزتها إلى الجانب المديني، إلا أن الجانب الذاتي هو الأكثر تبلوراً ودلالة، حيث حملَ الابن خصالاً متنوعة من الأبوين. فاذا كانت الأم قد منحته اللغة المجازية المشتقة من الأس البدوي، فان الأب الذي يمتلك (حساسية شاعر)، ذلك الكائن المشوّش، وصاحب التهويمات الضبابية والمزاعم الحلمية التي لم يؤيدها أحد من أفراد محيطه قد منحه الشبه الشكلاني، والقدرة على السَرَحان، والعيش في مكانين مختلفين في آن واحد. لابد من الإشارة إلى أن أي نص إبداعي هو تعرية جريئة للذات. وفي هذا النص الجريء فيه من الكشوفات الذاتية ما يضع الكاتب أمام مرآة جلية واضحة لا شروخ فيها، أو حتى خدوش صغيرة، تفسد متعة النظر إلى أدق التفاصيل التي يتوفر المبدع أمجد ناصر وهو يجوب متاهته الرملية سواء على أرض الواقع أم في فضاء الحلم.