سواء أثناء الحملة الانتخابية، التي ستختتم مساء غد الخميس، أو حتى خلال السنوات الأخيرة، كان واضحا للجميع، وعبر محطات عديدة ومتنوعة، أن الصراع جار ومشتد بين من يسعى لتفعيل أوراش الإصلاح في إطار صيانة استقرار البلاد، وبين من يعمل لفرملة مسيرة الإصلاح ككل وجر البلاد كلها إلى الخلف، وإلى التراجع، وإلى ما قبل محطة دستور 2011. لقد اعتقد رموز الريع والفساد أن المآلات التي انتهت إليها بعض البلدان العربية يمكن أن تشجعهم على إعادة الزمن السياسي المغربي إلى الوراء، وشرعوا في افتعال المناورات واختلاق نقاشات متوهمة، وتسخير عدد من الصحف والمنابر الإعلامية للنفخ في هذه الطروحات المفتعلة وإبرازها كما لو أنها أولويات المرحلة، وهي في الحقيقة مسوغات تركبها هذه اللوبيات للتغطية على مسعاها الحقيقي، أي إفشال الإصلاح، والتراجع عن كامل الدينامية التي تكرست في البلاد منذ 2011. هنا كان يجب أن نسمع أصوات المثقفين والكتاب والباحثين، وفعاليات المجتمع المدني والنقابيين، وكل هؤلاء يفترض أنهم يقبضون على استقلاليتهم، وعلى موضوعية النظر والتحليل، كما أن إنجاح الإصلاحات يندرج ضمن انشغالاتهم وتطلعاتهم. لكن في المجمل، كان ينتصر الحساب الحزبي واصطفاف المواقع على التقييم الموضوعي، وميدانيا ساد الصمت والانسحاب واللامبالاة وسط الكثيرين. هذه الفئات المحسوبة نظريا على النخب المتنورة والمتعلمة كان يجب أن تمتلك صوتها وتدلي بشهادة موضوعية وتبدي انخراطا وانشغالا أكبر بقضايا البلاد ومستقبل الناس، وأن تساهم في تعزيز الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات في بلادنا. التجربة الحكومية المنتهية ولايتها كانت نتيجة إرادة الشعب عقب انتخابات لم يطعن فيها أحد، والحقوقيون والديمقراطيون، بغض النظر عن ذواتهم الحزبية وخلفياتهم الأيديولوجية، كان يفترض فيهم الدفاع المستميت عن هذا، أي عن شرعية المؤسسات وعن إرادة الشعب. ويمكن إلى جانب الفئات المشار إليها أعلاه، إضافة عدد من رجال الأعمال والمقاولين والفاعلين الاقتصاديين، الذين من مصلحتهم حماية استقرار البلاد وإنجاح الإصلاحات وتقوية مقتضيات دولة المؤسسات وفصل السلط، وهم أيضا لم يكونوا ينبسون ببنت شفة، بما في ذلك لما تُمارس ضدهم ضغوط لدعم هذا الفاعل السياسي أو ذاك، أو للاصطفاف في خندق أنصار التراجع والفساد، وذلك برغم ما يعبر عنه بعضهم سرا وفي مجالس خاصة من استياء وامتعاض. المسار السياسي العام الذي عبرته بلادنا في السنوات الخمس الأخيرة، كشف على أن الصراع الحقيقي كان بين خيارين أساسيين، وهما خيار محاربة الفساد والريع وتكريس "المعقول" من جهة، وخيار لوبيات الفساد وفرملة الإصلاح وجر البلاد إلى الوراء من جهة أخرى، وكل من له غيرة على هذه البلاد ومستقبلها، كان يجب أن يكون في صف الخيار الأول، وأن يعلن بوضوح وشجاعة مواجهة الخيار الثاني وفضح رموزه والتنديد بممارساته وضغوطه. أما الاستقالة من إبداء أي موقف، وفي النهاية اختيار الاصطفاف اللفظي والفايسبوكي السهل ضمن ما يجري الزعم بكونه خيارا ثالثا، فهذا يجعل الانطلاقة، مع الأسف، تفتقر كلها للوضوح ولشجاعة القول وبعد النظر... إن صياغة المخارج والمقترحات والبدائل في السياسة والمجتمع تكون من داخل الواقع الحقيقي وليست متخيلة أو مشتهاة، ولذلك فكر الرواد في موازين القوى، وفي التحالفات، وفي التوافقات، وفي تبادل الالتزامات، وفي محددات مثل "التحليل الملموس للواقع الملموس"، وأقدمت تجارب تاريخية معروفة على صيغ مثل: "الحل الوسط التاريخي"، كما نظر التقدم والاشتراكية هنا في المغرب ومنذ عقود لما أسماه: "الثورة الوطنية الديمقراطية"... كم هي بلادنا اليوم في حاجة إلى نخب علمية واقتصادية وسياسية تنشغل بالأساسي وتفكر بحجم الوطن، وليس بحجم أنانيتها المنتفخة أكثر من اللازم... لنفكر لبلادنا وشعبنا وعيوننا مفتوحة على الواقع... هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته