مرة أخرى تخلق مدينة خريبكة المغربية، الحدث الثقافي الأفريقي بأثر سياسي ملحوظ، هي الواقعة بالقرب من أحد أكبر مناجم الفوسفات في العالم ووسط منطقة فلاحية وبدوية، وذلك من طريق السينما، هذا الفن الذي يتراجع بسرعة رهيبة في القارة، بعد أن تقلص في شكل كبير عدد القاعات السينمائية في جل الدول، أو اندثرت كلية في دول أخرى. وضع يخلي بالضرورة مكانه فقط للحدث والخبر المثيرين عن أفريقيا من قبيل أخبار الانقلابات والمذابح الإرهابية والكوارث، طبيعية كانت أم تسبب فيها الإنسان الأفريقي. يأتي مهرجان خيبكة للسينما الأفريقية، إذاً ليحاول تكذيب هذا الواقع، وإعطاء صورة لقارة بإمكانها إنتاج الجمالي، والمساهمة في إنتاج الرمزي على غرار ما يحدث في باقي القارات. وكما أشار إلى ذلك نور الدين الصايل المدير السابق للمركز السينمائي المغربي ورئيس مؤسسة مهرجان خريبكة خلال حفل الافتتاح للدورة الثامنة عشرة قائلاً أنها دورة الاستمرار أولاً والصمود ثانياً. كلمتان تؤكدان مقاومة وضع سينمائي قاري منحسر جداً. ولا سبيل لتدارك الأمر إلا بالاستمرار في إنتاج أفلام، وهو ما تسعى هذه الدورة إلى تبيانه. وهكذا تمت برمجة أربعة عشر فيلماً في المسابقة الرسمية. رقم محترم تم تداركه من دول تمثل مختلف مناطق أفريقيا اللغوية باستثناء جنوبها. إثيوبيا والكاميرون وغينيا وساحل العاج وموريتانيا ومالي وبوركينا فاسو ونيجيريا وتونس والجزائر ومصر. وبالتالي يعتبر المهرجان قد نجح كمياً في ملء دفتر شروطه الفني والثقافي الذي آل على نفسه أن يلتزم به منذ دورته الأولى سنة 1977. أي في سبعينات القرن الماضي التي كانت مضمخة بأحلام كبيرة كان مضمونها أن تتبوأ فيها القارة الأفريقية مكانتها الطبيعية بعد موجة التحرر من ربقة الاستعمار الغربي، والتي واكبتها أفكار التقدم والديموقراطية والعيش الكريم التي يمكن أن يبدع فيها الإنسان الأفريقي مستقبله مستقلاً وحراً. وكان الفن السابع إبانها وسيلة محبذة راودها ونشرها مخرجون ومبدعون أفارقة للتحسيس والتوعية والتعريف بخصائص ومميزات ثقافة قارية قديمة حية وحاملة المثل العليا. على غرار العمل الجبار الذي بدأه وقدمه المخرج والكاتب السينغالي الكبير الراحل صمبين أوسمان والذي تحمل جائزة التحكيم اسمه. هذا المخرج الذي تم استحضار تعاليمه ودوره في خلق السينما الأفريقية، وخاصة جملته القوية «أخرجوا أفلاماً، أخرجوا.» حين رد على سؤال سينمائيين شباب «ما العمل؟». ولأنه رائد بالفعل وبالقوة، فقد كان فيلم الافتتاح هو عمله الأشهر في تاريخ السينما في شقها الأفريقي، فيلم «الحوالة». شريط يمكن اعتباره مؤسس العناصر الأساسية لما يجب أن يرتكز عليه الفن السابع الأفريقي بحساسياته النابعة من الأرض السمراء والشدو الأسمر وإثنولوجيا الارتقاء مما هو محلي للوصول إلى آذان وأسماع باقي العالم مع تضمين باطني لخصوصيات إبداع فيلم كما هو متعارف عليه عالمياً. إبداع الإنسان الأسمر في الإطار ذاته وتبعاً لمنطق الاستمرار نفسه، قررت الدورة الحالية الاحتفاء بالسينما السينغالية كضيف شرف بعرض أربعة أفلام في قاعة المركب الثقافي الجميلة في ظهيرة عرض أشرطة المسابقة نفسها. وللتذكير فهذه القاعة شيدت كاستجابة للحدث المهرجان الأفريقي الخريبكي المتميز، وحيث الفن القاري يُشَاهد ويُلمس في ظروف جميلة توافق معطيات الاستمتاع. وذاك ما حدث بالفعل في اليوم الأول للمهرجان حين قدمت في حفل الافتتاح فرقة رقص شعبي سنغالية عملين قويين عبر من خلالهما الجسد الأسمر النسوي والرجالي عن علو كعب كبير في خلق الأثر الفني العميق بالدلالات الممتعة. والحق أن الإنسان الأسمر أبدع بالسينما كفن حديث معاصر مضمن وبالرقص والغناء كفن أصيل حي متى وجد المكان والظرف المناسبين. كان ذاك أسمر براقاً بعمق. وكأني بمنظمي المهرجان يقدمون الدليل على عدم الرضوخ لليأس، بل إعادة بعث الفن السابع في جنوب الكرة الأرضية وربط الماضي الحالم بالحاضر الغير مرضي. ولأن الأمر لا يجب أن يكون مجرد نوستالجيا محضة ممتزجة بواقع يحيل على التشاؤم، تم تنظيم ندوة ذات أهمية خاصة حول موضوع «جدوى المهرجانات السينمائية الأفريقية؟». وتم استدعاء مسؤولي كل من تظاهرة أيام قرطاج السينمائية التونسية كأقدم تظاهرة في القارة، ومهرجان فيسباكو البوركينابي المعروف، ومهرجان نظرات من أفريقيا الكندي الكيبيكي، وأحدث مهرجان أفريقي عبر مهرجان الأقصر المصري، ومهرجان الشاشة السوداء الكاميروني وطبعاً مهرجان خريبكة. وعرفت رحاب الندوة حضوراً قوياً للسينمائيين من أفريقيا جنوب الصحراء. في الندوة، ركزت المداخلات على واجب عقد المهرجانات وضرورة احترام توقيتها مع عدم التلكؤ في إيجاد كل الوسائل المادية اللازمة لإدامتها، وحض الجمهور على البحث عن الفيلم الأفريقي ومشاهدته في القاعات، التي يجب المناداة بتوفيرها وتوفير الأفلام بتكوين المخرجين وتشجيعهم. وعدم الاكتفاء بالتذمر وإنزال الأيدي عجزاً. بل خلق سوق توزيع للفيلم الأفريقي، وفتح الفرص كي يعمل المهنيون الأفارقة في الأعمال السينمائية بغض النظر عن الانتماء لدولة أو لأخرى. لقد كان الإحساس بالانتماء للقارة الأفريقية حاداً في شكل إيجابي في مجابهة عالم لا يرى في القارة إلا مصدر ثروات أرضية ضخمة ومصدر أزمات إنسانية. خلقت خريبكة السؤال الكبير ومكنت من تنويع الأجوبة المتعددة بتعدد المتدخلين ومنطلقاتهم وفق المشكلات المحلية الموجودة. ولأن كل مهرجان سينمائي عصب حي يتجلى في برمجة الأشرطة السينمائية، فقد لوحظ تنوع في الاختيارات الفيلمية رغم وجود صعوبة في إيجادها أصلاً كما تم التذكير من طرف كل مهتم خلال أيام التظاهرة. وهكذا بدا هناك تراوح في القيمة والطابع ما بين فيلم مختار وآخر. في الصنف الأول يمكن إدراج الفيلم الإثيوبي «ثمن الحب» والموريتاني المالي «تمبوكتو» الحائز على جوائز السيزار الفرنسية والمغربي «جوقة العميين» الذي حاز جوائز وتقديراً نقدياً وجماهيرياً. هذا على سبيل المثال، إلا أن تتبع أفلام قادمة من القارة السمراء لمدة أسبوع كامل يشكل احتفالاً في حد ذاته للأسباب المذكورة أعلاه. هي ممارسة سينمائية صرفة ولو لم تقع في بلاتوهات تصوير، بما أنها تجعل العديد من المخرجين والممثلين والمسؤولين والنقاد الأفارقة يلتقون للنقاش والجدل وتبادل الرأي حول الفن السابع والواقع الأفريقي العام. وهو أمر لا يحدث إلا نادراً...