صورة فوتوغرافية ذات دلالة إعلامية ذكية لجسد طفل منكفئ على وجهه على رمال الشاطئ، حركت ضمائر البشرية حول العالم أكثر من ألوف الهاربين من أوطانهم. صورة واقعية مؤذية حد الألم التقطتها صحفية تعرف مهنتها ورسالتها الإعلامية، جسدت مأساة حشود راكبي الزوارق المطاطية التي يصل بعضهم أو لا يصل، فإن وصلوا لن يجدوا سوى المحن والقهر والنوم على الأرصفة في العراء، ولن يجدوا سوى هيئات حكومية وغير حكومية مترددة حائرة وحتى منافقة، تطيل التفكير بما يجب عمله لمساعدة هؤلاء الفارين من الاستبداد والموت والفقر والقهر في أوطانهم. صورة فوتوغرافية لطفل منكفئ على وجهه بقميصه الأحمر وبنطاله القصير الأزرق وحذائه الجديد، ابتاعها له أهله قبل السفر ليتمتع بها في وطنه الجديد المجهول الذي لم يصله، فقد انكفأ به الزورق المطاطي قبل أن يبتعد كثيرا عن الشواطئ التركية، فغرق هو وأخوه وأمه الشابة ريحان. صورة فوتوغرافية فردية جعل منها الإعلام قضية عامة، قضية عالمية، صورة فردية لطفل مجهول، كردي سوري،عرفنا بعد موته أن اسمه أيلان عبدالله، من عين العرب، كوباني، تحولت إلى صرخة استغاثة إنسانية قلبت الموازين السياسية والأمنية، وحركت ملايين البشر للتعامل مع إشكالية النزوح والهجرة من بلدان النزاعات في المشرق وأفريقيا نحو أوروبا، المترفة، المرتاحة، التي كانت تحسب أن أوجاع الشرق لن تصلها يوما ما. فجاءهم مستغيثون... لم تكبحهم أخبار الموت والعذاب التي تكبدها من سبقهم ... مستغيثون من استبداد الشرق... يرجون رحمة الغرب. فكانت صورة الطفل الغريق الذي حملته الأمواج إلى الشاطئ هي صرخة الاستغاثة، التي جعل لها الإعلام دويا هائلا ... صورة أكدت من جديد أن الإعلام قوة.. له التأثير الأكبر على الرأي العام وهو قادر على أن يكون محركا لزوابع كبيرة تأتي برؤوس حكومات وأنظمة. صورة لم تتنبأ مصورتها عندما التقطتها على ساحل البحر المتوسط أن يكون لها كل هذا التأثير الوجداني في العالم، بل وكل هذا التأثير السياسي والأمني، فقد ساهمت هذه الصورة الاستغاثة -مع عوامل أخرى طبعا- في اختراق الأسلاك الشائكة التي نصبتها المجر، وفي فتح محطات القطارات في بودابست والسماح للآلاف من اللاجئين بعبور الحدود بين البلدان دون تأشيرات دخول، بعد أن اضطرت دول، لم تكن تسمح من قبل لشخص واحد أن يتسلل عبر حدودها بصورة غير شرعية، إلى أن تسمح للآلاف من الأفراد غير المسجلين بنزوح جماعي غير مسبوق، عشوائي، اخترق فيه المهاجرون الجدد المدن ومحطات القطارات والشوارع، التي وقف مواطنوها يلوحون ويصفقون للقادمين الجدد ويوزعون عليهم الماء والأطعمة. وأتصور أن الكثير من أؤلئك المرحببن -وهم يصفقون للقادمين الجدد المنهكين من مشقات الوصول- كان في ذهنهم ذلك الطفل الغريق المنكفئ على شاطئ البحر الذيملأت صوره وسائل الإعلام المرئية والمقروءة ومواقع التواصل الاجتماعي .. في كل بقاع الدنيا. هذا النزوح غير المسبوق لمواطني دول عديده في المنطقة، وخاصة سورياوالعراق إلى أوروبا، نزوح -كما شاهدنا على شاشات التلفزيون- عوائل بكاملها، برجالها ونسائها وأطفالها، مع أن طرق النزوح محفوفة بمخاطر كبيرة جدا قد تصل إلى الموت، غرقا في البحار أو اختناقا في الشاحنات، أو تشردا في الطرقات أو انتظارا على حدود البلدان، تسبقها عمليات احتيال متنوعة واختلاس وكذب ودجل من قبل المهربين الذين هم أول الهاربين إذا تعرضت رحلتهم للخطر. في لقاءات تلفزيونية خاطفة مع أفراد من جموع اللاجئين عن الدافع الذي يدفع المواطنين إلى النزوح الجماعي المفرط، ظهر واضحا على الكثيرين منهم القنوط الذي يسيطر على نفسية المواطن العربي وخوفهم من نتائج التدخلات الإقليمية والدولية وشراسة الإرهاب والتزمت الديني والطائفية واليأس التام من الحكام، وقال أكثرهم إنهم لم يكونوا يتمنون مغادرة بلدانهم إلا أنهم يبحثون عن مجتمع يسوده القانون والنظام لضمان بقائهم على قيد الحياة التي أوشكوا أن يفقدوها في بلدانهم ... وقال مواطنون من العراقوسوريا بالذات إنهم لم يهجروا بلدانهم جوعا أو بطرا وإنما هجروها للبحث عن الأمان ولضمان مستقبل أبنائهم المهدد بالضياع في خضم الفوضى الأمنية والسياسية والاجتماعية في بلدانهم . . والمستقبل الضبابي والمجهول الذي ينتظر المنطقه بأسرها.