حوار مع القاص المغربي محمد أكراد الورايني محمد أكراد الورايني، قاص أولا، ومهووس بالشذرة الشعرية ثانيا، صدر له بالاشتراك عن دار التنوخي مجموعة قصصية بعنوان» نقش في الحرف»، ومجموعة شذرات وسمها ب»سراب لا يرى» عن دار الوطن. على هامش لقائنا بالصويرة كان لنا معه هذا اللقاء حول تجربته في الكتابة والحياة. هل يمكن إعطاءنا لمحة عن المراحل الجينية الأولى، ومن هم الكتاب الذين ورطوك؟ بالنسبة للشق الأول من السؤال في نظري، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننسب المراحل الجينية الأولى لدى أي كاتب، مهما كان شأنه ، لشيء آخر غير القراءة بالدرجة الأولى، مرحلة القراءة التي أقر أنها كانت ذات فضل كبير على تكون حبري أولا، وتدفقه في مرحلة لاحقة، أظن أنها ابتدأت بشكل مبكر في حياتي، أقصد هنا قراءة ومطالعة الأعمال الأدبية، فأنا أذكر جيدا أني في السنة الرابعة من حياتي الدراسية بالمرحلة الابتدائية كنت قد قرأت كل قصص محمد عطية الابراشي المخصصة للأطفال، هذه القصص التي كان لها عظيم الأثر في تعلقي بالقراءة فيما بعد، وذلك لجمال أسلوبها وأحداثها المشوقة. أما بالنسبة للشق الثاني فأظن أن كل الكتاب الذين قرأت لهم وما أكثرهم، كان لي شرف توريطهم لي أدبيا، وأقصد هنا الاستمتاع بقراءة ومطالعة إنتاجاتهم وأيضا محاولة الكتابة في ما بعد. ماهي المرجعيات والروافد التي تمدك بالنسغ الإبداعي؟ في الحقيقة ليست هناك مرجعيات معينة، بل هناك منطلقات شتى يمكن حصر بعضها في المعيش اليومي المكتظ بالأحداث المتضاربة، أي كل ما هو واقعي، وأيضا هناك الخيال والتخييل، هذان العنصران اللذان لا يختلف حول ضرورتهما في الكتابة الإبداعية اثنان، أضف إلى هذا وذاك المحيط الاجتماعي الذي أنتمي إليه والذي أمارس قربي اللصيق به في كل ثانية أعيشها، كما لا يمكن أن أغفل التراث السردي الذي أكون قد تشبعت به بشكل أو بآخر منذ طفولتي، من خلال ما استمعت له من حكايا ممتعة سواء عن طريق المذياع، أو المسرح الذي ترعرعت على حواشيه مستمعا ومتفرجا في نفس الآن ،وأعني بذلك "الحلقة". يلاحظ التركيز في قصصك القصيرة جدا على البعد الاجتماعي، ماذا تقول؟ أقول لك بكل تلقائية هذا صحيح ، فالبعد الاجتماعي ثابت في كتاباتي بشكل جلي، ربما لأنني كما سبق وقلت أمارس قربي اللصيق بالمحيط الذي أنتمي إليه، حيث أني أحمل همومه التي تنحدر منها همومي، هذا المحيط أراه خصبا بأحداثه التي تتناسل بسرعة، وبتناقضاته التي لا تنتهي، وهي أي الأحداث تكون مرتعا خصبا لتأملاتي ومعملا لصياغة ونسج الجزئيات والتفاصيل التي ترسم معالم هذا المحيط والتعبير عن الكائن والممكن فيه، في قالب حكائي قصير جدا سمته الاختزال المفرط. أنت معروف بكتاباتك القصصية القصيرة جدا، فلماذا تحولت إلى الشذرة الشعرية، وأين تجد أكراد الورايني الآن؟ فعلا عرف عني الاهتمام البالغ بالقصة القصيرة جدا، بحيث صدر لي في هذا الجنس الأدبي منذ سنوات عمل مشترك مع مجموعة من الكتاب بعنوان نقش في الحرف، وإن شاء الله في القريب هناك إصدار جديد، ولعل سبب هذا الاهتمام نابع من الرشاقة التي تميزها القصة القصيرة جدا، والتي مارست علي جاذبيتها فنجحت، وربما هذا النجاح تأتى لها بسبب تماشيها مع طبعي في الكلام الذي يروم الاختصار. أما بخصوص كتاباتي في الشذرة الشعرية في الآونة الأخيرة فلا يمكن وصفه بالتحول كما جاء في سؤالك، بل يدخل بالأساس في الترحال التلقائي بين الأجناس الأدبية بحثا عن إمتاع القارئ الذي أتخيله دائم الانتظار لكل جديد. وربما لدي حلم في أن أجدني قريبا من الكتابة بشكل عام. بالعودة إلى مجموعتك المشتركة "نقش في الحرف"، هل لك أن تحدثنا قليلا عن ظروف هذه التجربة؟ هذه التجربة جاءت تتويجا لمحبة كانت صادقة بيني وبين أصدقائي الكتاب عبد الغني صراض وكمال دليل الصقلي ومصطفى الطالبي وإبراهيم بويه، الذين أشترك معهم في هذه المجموعة القصصية، التي لعب فيها الحرف دور الخيط الرفيع الذي كان يجمع بيننا ويستحوذ على جلساتنا في أي مكان كنا نجالس فيه بعضنا، كنا نختلف في أمور شتى لكن القصة القصيرة جدا كانت تستهوينا وتوحدنا، فجاءت فكرة الارتقاء بعلاقتنا وذلك بتوثيق صداقتنا من خلال مؤلف يجمع نصوصنا وأسماءنا وكذا صورنا الشخصية، فكان "نقش في الحرف" هذا العمل الذي كان أول إصدار قصصي على ما أظن يشترك فيه خمسة كتاب. ما الذي ترغب في كتابته خلال السنوات القادمة؟ أظن بأني سأظل وفيا في الوقت الراهن بنسبة كبيرة للكتابات القصيرة جدا (ومضات شعرية، هايكو، قصة قصيرة جدا ...إلخ)، نظرا لما تحتله هذه الأجناس الأدبية في نفسي ولما تحويه من متعة تبدأ مختزلة فتنتشر بشكل رهيب، نتيجة التأويل الذي تفرضه فرضا، فتحتل بذلك كيان المتلقي وتستدعيه للمشاركة. لكن على هامش ذلك سأحاول تحقيق مشروع كنت قد بدأته منذ زمن، ذاك المتمثل في إصدار يضم قصصا قصيرة ينقصه بعض الكم من النصوص، قبل أن أعود لجمع مذكرات متناثرة هنا وهناك ضمن مؤلف يكون بمثابة سيرتي الذاتية. هل ثمة طقوس وعادات كتابية لديك، أم أنك تكتب وكفى؟ الكتابة هي همس الأحاسيس المرسوم على جسد الورقة، وحتى ينسكب هذا الهمس سلسا رقراقا فإنه يتطلب طقوسا تختلف بطبيعة الحال من كاتب لآخر، وطقوسي في الكتابة بسيطة جدا ولا غرابة فيها، فأنا أجدني ميّالا للكتابة في مكان يكون السكون سيده، والضوء الخافت المسلط على مكان جلوسي فقط بحيث لا يتعداه إلى ما يجاوره، وهذه الطقوس تتحقق لي بكل سهولة داخل مكتبي بالبيت في الوقت الذي ينام فيه الجميع. كيف كانت تجربة "سراب لا يرى"، ومتى نرى هذا السراب؟ هي تجربة حكمتها الصدفة والإلحاح في جوهرها، ففي الوقت الذي كنت أراكم فيه الشذرات المكونة لهذا السراب المختلف، لم تكن لدي فكرة نشرها لسبب واحد هو أني كنت أفتقر للشجاعة الكافية لأنعت واحدا من المتعاطين لهذا الجنس الأدبي الفاتن حقا، وذلك خشية إزعاج كتاب آخرين ممن لهم الريادة في هذا الميدان، وهنا أعود إلى الإلحاح الذي أشرت إليه آنفا فأقول إن فضل خروج هذا المؤلف المتواضع إلى الوجود يعود بالأساس لصديق حميم له باع طويل في المقتضب من الكلام المستفيض في المعنى. أما رؤية هذا المنتوج على حد سؤالك فتعود بالأساس إلى إرادة المتلقي ودرجة اهتمامه، لأن الكتاب خرج إلى الوجود منذ مدة وهو متواجد بالمكتبات التي تعنى بالمنتوج المغربي، وأيضا بكل المعارض التي تقيمها مكتبة فرنسا بالدار البيضاء على هامش الملتقيات والمهرجانات التي تنظم بربوع المملكة. ما الذي كنت تتغياه من ترجمة شذراتك الشعرية للغة موليير؟ في الحقيقة إن فكرة ترجمة هذه الشذرات إلى اللغة الفرنسية والتي أنجزَتها باقتدار كبير المبدعة الراقية حبيبة زوكَي مشكورة، وُلدت راشدة ومكتملة الطموح، وقد تزامنت مع الانتهاء من انتقاء ومراجعة النصيصات المراد طبعها، وأظن أن الغاية الأسمى منها هو منح إمكانية قراءة العمل من الجهتين اليمنى واليسرى على حد سواء، وكذا إعطاء فرصة القراءة للذين لا يتقنون اللغة العربية على وجه الخصوص. وحتى لا تفوتني الفرصة، أتقدم بالشكر والامتنان للشاعر الفرنسي روبير نوتنبوم الذي قام بمراجعة ترجمة النصوص. كم مسودة تكتب لشذرتك؟ أم تأتيك برقا كاملا؟ الكتابة كما يقال هي إنتاج لعمليات تفكير وتفاعل عاطفي ووجداني وليست بضاعة جاهزة التصنيع، ولهذا السبب فليس من السهل أن ننتج في نظري عملا إبداعيا ناجحا بأقل التكاليف، واستنادا إلى هذا فإنتاجي الأدبي غالبا ما يقطع مراحل معينة تبدأ بالفكرة التي تكون قد طرقت مخيلتي ودونتها بمفكرة تلازمني، تليها مرحلة بناء الفكرة عبر خربشات عدة، ثم صياغة النص صياغة أولية، قبل تركه لفترة من الوقت قد تطول أو تقصر، ليختمر ويكتمل نضجه ثم بعد ذلك كتابته في حلته النهائية، وهذا يتطلب مني مسودات قد تكثر أو تقل. ما الذي تراه الأهم بالنسبة إليك في هذه الحياة؟ وأي نوع من المبدعين تطمح أن تكونه؟ إن الأهم في الحياة بطبيعة الحال هو التمتع بالصحة والعافية، فهي الورقة الرابحة التي أرى فيها السند المثالي لبلوغ كل الأماني والأحلام الممكنة، فبسلامة البصر أستطيع أن أقرأ أولا وأن أميز بين الجمال والقبح، وبتسوية البنان أتمكن من الكتابة وإتقان العمل، وبمعافاة البدن بكل أعضائه يسهل علي احتلال مكان تحت الشمس وتحقيق الكسب الحلال، وبقلب ينبض بالجمال أوفّق في رسم ابتسامة صادقة، تخول لي سلامة العبور إلى كل قلوب الناس الأسوياء. وطموحي هو أن أجدني وأظل محافظا علي، أرتق فيّ باستمرار ما قد تمزقه نفسي الأمارة بما قد يزيغني عنّي وعن الآخر، هذا الآخر الذي هو مرآتي التي أحب أن أراني فيها دونما قناع، فأعرفني من غير ارتباك ومن الوهلة الأولى. أطمح كذلك إلى بلوغ ذاك الطهر والنقاء الذي يميز الحبر والقلم الذي يقدر الكلمة. وختاما، بم يتهم محمد أكراد الورايني، محمد أكراد الورايني؟ يتهمه اتهامات شتى منها الإفراط في البساطة وحب الناس، وتقديس الجمال بكل أنواعه، والقسوة الزائدة في جَلد النفس، في محاولة لثنيها عن صفتها المتمثلة في الأمر بالسوء، وهذه لعمري كلها واتهامات أخرى لا تحضرني الآن هي اتهامات صحيحة وبشهادة شهود، أتمنى أن تأخذها محكمة الحياة بعين الاعتبار وتحكم على إثرها بأقصى الجزاء.