تعتبر القصة القصيرة جدا من الأجناس الأدبية الحديثة التي تتصف بصفة الزئبقية و الانفلات الذي ينهض ويتحرك على مستوى المفردات و الجمل القصصية،وتزداد تعقيدا وصعوبة في الدراسة النقدية عندما تسرد بصيغة الجمع،حيث تتعدد الرؤى وتتعدد معها أساليب السرد المختلفة عند القصاصين المشاركين في هذا المشروع القصصي. وفي "نقش في الحرف"لجماعة برشيد تزداد المجموعة القصصية صعوبة وتمردا على القارئ/الناقد لما تحمله من أوجه رؤى متباعدة ومختلفة باختلاف وجهات نظر أصحابها،مما ينتج عنه صعوبة في اختيار آليات قراءتها،فيشعر القارئ وهو يقلب صفحاتها أن كل قاص قد نفت شيئا من روحه في اختياراته التجريبية،وصب فيها رؤيته إلى العالم،انطلاقا من منظوره الخاص ومن زاوية قراءته للعالم،لكن هذه الرؤى المتناقضة المنطلق لها نفس الهدف ونفس التوجه،وحينها يصبح الاختلاف و التناقض في الرؤى يخدم المشهد الثقافي و السياسي و الاجتماعي... إنها رؤى ثاقبة إلى العالم،رؤى تتقاطع عموديا وأفقيا مع الطرح العام لكافة المثقفين المغاربة،وتعبر عن آلامهم و آمالهم بكل صدق وإحساس مرهف.وكان لهذه الطريقة في الكتابة أثر كبير في نفسية المتلقي حيث إنه أصبح عنصرا مشاركا في عملية السرد القصصي.لقد أصبح المتلقي هدفا عندما استوعب المجموعة القصصية وتذوق دلالاتها وحمولاتها الفكرية،ومن تم أصبح عنصرا مشاركا متورطا في عملية السرد،وذلك من خلال قراءة ماوراء السطور،فلا تلبث عيناه تزيغ عن القراءة إلا ويجد نفسه منغمسا في جوهر مواضيع المجموعة القصصية ومقترحا لمجموعة من الحلول الممكنة التي تعطي تفسيرا وتأويلا للأسئلة المطروحة،والإشكاليات التي تبقى معلقة وتحتاج إلى إجابات تقترب أو تبتعد من المشروع الفكري و المنهجي المخزون و المنقوش في ذاكرة الأدباء الخمسة. ففي قصة"وهم"للقاص محمد أكراد الورايني نجده قد استغل وسيلة من وسائل الحراك الفكري وهو الحوار،فأثناء حوار الحبيبين عن صدق حبهما،كان القارئ عنصرا مشاركا في هذا الحوار من خلال الفضول المعرفي لتتبع ما وراء هذا الحوار،وما تخفيه الحبيبة تجاه حبيبها(قالت له إنها تسمع دقات قلبه تنطق اسمها..ابتسم وقال في نفسه:طيبة أنت وواهمة أنت....أما هي فكانت تردد في خلدها كلاما آخر)ص28 . وتزداد المجموعة القصصية قوة عندما ترفع مستوى وإيقاع الرؤية إلى العالم عندما يطرح القاص كمال الدين الصقلي،موضوعا بالغ الأهمية وهو استغلال بعض المنتفعين من أزمات الفقراء وذلك باستغلال أراضيهم الموجودة في المركز عن طريق إحراق بيوتهم القصديرية وعدم الرد على استغاثاتهم،وتركهم تحت رحمة النيران التي تلتهم أغراضهم من أجل الانقضاض على أراضيهم وترحيلهم إلى المجمعات السكنية الضيقة المنتشرة في أطراف المدينة(بعد الإطفاء بأيام انشق رماد دور الصفيح فانبعث فندق من خمس نجوم)ص56 وهي نفس الصورة عند القاص عبد الغني الصراض الذي تتبع عن قرب تحين الفرص عن هؤلاء المنتفعين الذين يتصيدون الفرص تباعا،واستغلال حاجة الفقراء(على الجانب الأيمن من الحارة التي تحمل تاريخي ،انهار المسجد العتيق..المدرسة القديمة......على الجانب الأيسر من الحارة التي أحمل تاريخها،شمخت الملاهي ...المراقص...و....) انهيارص16 وتلتقي الرؤية عند القصاصين على مستوى اختيار المفردات المناسبة ،والجمل القصصية الواحدة ،بل تزداد درجة التقارب لتنمحي الفواصل إلى درجة اختيار العنوان الواحد (انهيار)الصفحة16 و(انهيار)ص57 وهذا دليل على وحدة الموقف الأيديولوجي و الفكري الذي يجمع هؤلاء الكتاب ،لأن إطارهم المرجعي والفكري و الثقافي واحد. وهكذا يسترسل القصاصون الخمسة في التقاط مشاهد من الواقع الاجتماعي ومن الحالات النفسية التي يلتقطونها من ملامح الفقراء الذين يستغيثون دون أن تجد أصواتهم صدى أو ردا يشفي غليهم ويحل همومهم،فكانت مجموعة"نقش في الحرف"وسيلة لتتبع هموم هذا المواطن المغلوب،وفرصة للحكي بصوت عال عبر بوابة الكلمة المعبرة و المسؤولة. إن الأدباء الخمسة يتراجعون إلى الخلف ليتركوا الباب مفتوحا لصوت المتلقي لكي يصوغ قصته بالأسلوب الذي يريد،وبالمفردات اللائقة التي تناسب المحيط الذي يعيش فيه ومدى اتساع وضيق رؤيته إلى العالم. 2:مستويات التبئير في"نقش في الحرف" وتزداد الرؤية إلى العالم ضيقا إلى درجة التبئير((focalisation وتحديد زاوية الرؤية من أجل وضع الظاهرة الاجتماعية بؤرة((focus تحت المجهر وتسليط الأضواء عليها ليراها المتلقي وتكون الوسيلة الممكنة للتعبير عن همومه بلسان هؤلاء الأدباء،لأن ما يميز الإنسان العادي عن الكاتب هو الأسلوب وكان الأدباء الخمسة خير معبر عن هموم القارئ وتطلعاته،وقد اعتمدوا على ضمير الغائب في كل القصص لتتبع المشاهد و الأحداث القصصية لكي يزول صوت القاص يتأخر شيئا ما فاسحا المجال لصوت القارئ الذي يساهم في ملء هذه الضمائر الغائبة بالضمائر المتكلمة. إلى درجة اختلاط أصوات القراء بأصوات القصاصين الخمسة وكأننا أمام كراسة أو مدونة مكتوبة بلغة الفطرة و الطبيعة التي تجمع كافة شرائح المجتمع. وترفع المجموعة القصصية من مستوى الرؤية إلى مستوى التبئير،فنلاحظ بأن القصاصين الخمسة لا يكتفون بتسليط الضوء على الظاهرة الاجتماعية وإبداء آرائهم فيها من خلال رؤاهم الكرية و مواقفهم الأيديولوجية،وإنما يعتمدون على تضييق درجة الرؤية إلى حد الجمع بين الرؤية الذهنية التي توحي بالرؤية البصرية،وذلك بوضع الجملة القصصية تحت المجهر لتسليط مزيد من الضوء عليها،من خلال عملية التبئير،بمعنى أن القصاصين حاولوا التقاط مشاهد من الواقع بأعين القراء(بعد هبوطه من طلعاته لقصف غزة وأهلها،كان الطيار الاسرائيلي يسجل يومياته على مفكرته....اليوم الأول طلعة مباغتة ...قصف مكثف...قتل بالجملة...اليوم السادس،شعب لايموت)ص32نلاحظ هنا مدى ضيق درجة الرؤية في هذه القصة حيث إن القاص الواريني ينقل إحساس الطيار الاسرائيلي وهو يصف من الداخل وبشكل حرفي ما تتطلبه المذكرات و اليوميات في قصة قصيرة جدا،فنجده يتقمص دور البطل في القصة وهو يحكي مجريات الأيام الستة التي عرفها القصف على غزة،مبينا نفسية الطيار الاسرائيلي وهو يحمل في داخله المعتقد الديني الذي يحدد أيام العمل عند اليهود في ستة أيام ليرتاح في اليوم السابع. من هنا تظهر لنا عملية التبئير في التقاط المشاهد من الداخل و التعبير عنها وكأن القارئ يعيشها ويتفاعل معها،فالقاص يحول اللفظي إلى مقروء،كما يحاول ترجمة المرئي إلى لغة،وهذه الجمل القصصية توحي للقارئ وكأنها تنهض وتتحرك في إطار زمكاني،في إطار يكسر أبعاد زمن الوقائع لتخترق بقوة زمن القص الذي كتبت فيه هذه القصص. وفي هذه المرحلة يختلط البعد الزمني بالبعد النفسي،الشئ الذي يدفعنا إلى تصديق دلالات هذه القصص والتفاعل مع حمولاتها الفكرية القائمة على مبدأ الصراع و الاختلاف المفضيات إلى التطوير و التجديد. كما أن لغة السرد لا تكتفي بتمثل الواقع ونقله أدبا متخيلا،وإنما ترقى به في خط عمودي يساعد على تتبع حركية الأحداث وتطورها رغم ضيق حجم فضاء القصة الذي تتحرك فيه هذه الأحداث. أما في قصة"العرس" نرى وجها آخر من أوجه التبئير، وهو التبئير الخارجي الذي يعتمد فيه السارد على وصف المشاهد و الأحداث من الخارج من خلال نظرة بانورامية تتابع مجريات الأحداث من أعلى،وكأن السارد يجلس على منبر الأحداث ويحاول اختصار الزمن وتكثيف مفرداته المتناثرة على بياض صفحة القصة لترسو أخيرا في ذهن المتلقي فالقاص الطالبي يصف لحظة حزينة ابتدأت بفرحة العرس لتنتهي بحزن الانتحار في مشهد جنائزي ميلودرامي(دخلوا غرفة العريس..وجدوه قد علق نفسه بحبل بعدما قتل العروس.. كان نفس الحبل الذي لعبت به القتيلة وهي صغيرة) العرس ص45 فالقصة هنا تميل إلى الوصف السيكولوجي و الاجتماعي و السياسي للظواهر و للشخصيات الرئيسية في القصة،‘نها كتابة تعتمد على النبش في الذاكرة و النقش في الحرف،إنها كتابة يستجيب فيها الحرف للذاكرة المخزونة في متخيل القاص وتلتقي مع متخيل القارئ،إنها حروف تنتظم لتؤثث فضاء هذه القصة. 3:خاتمة وتعليق وفي الأخير نقول بأن المجموعة القصصية "نقش في الحرف"تدخل في إطار الكتابة الأدبية المشتركة التي بدأت في الأعمال الروائية المشهورة عند عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا في "عالم بلا خرائط"هذه الرواية التي تمزج بين أسلوبين مختلفين إلى حد التناقض لكن لا يمكن التمييز بين صاحبي هذا العمل الأدبي الراقي ،وهذا ما يتجلى في هذه المجموعة القصصية لولا اختيار حيز مكاني لكل قاص ولولا كتابة عناوين قصص كل قاص على حدة،فكان من الأولى ترك القصص تتحرك على عواهنها دون تدخل من يد الناشر أو التقني في الطباعة لكانت أفضل ،لأن هذه المجموعة تحمل نفس الهم الاجتماعي و النفسي و السياسي،إلى درجة أن القارئ لا يمكنه التمييز بين أسلوب أصحاب هذه المجموعة، لولا تمييزها بواسطة العناوين وذكر أصحابها.إنها صادرة عن معاناة فئة من فئات المجتمع الذي يعتبر هو نبض الشارع المغربي وهي فئة الطبقة الوسطى التي تحمل الهم المعرفي و الثقافي.إن القارئ يشعر وكأن هذه القصص صادرة عن عقل واحد وعن تجربة واحدة. كما أن اشتراك مجموعة من القصاصين في مجموعة واحدة يحيلنا إلى إشكاليات عميقة يمكن طرحها على شكل تساؤلات : 1:هل اشتراك هؤلاء الكتاب راجع إلى أزمة نصوص أم إلى أزمة طباعة ونشر؟ 2:هل لمهنة التدريس أثر في هذا العمل القصصي بحيث يمكن اعتبار هذه المجموعة القصصية نموذجا من نماذج مدونات القسم التي يسجل فيها كل تلميذ ذكرياته؟ 3:هل عجز المبدع الواحد عن أداء دور المثقف العضوي؟ 4: هل آلية صناعة الثقافة ونشر الوعي الجمعي و الجماعي لابد له من إبداع مشترك لتمريره على الوجه الصحيح؟