كانت حقبة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي آذنة بانحدار المشروع القومي العربي ودخول العمل العربي المشترك مرحلة التقوقع والضعف، الأمر الذي مكّن المشاريع الإقليمية غير العربية من التوطين في جغرافيا بلا أفق استراتيجي وبلا منظومة عمل جامعة. 4 مشاريع قومية «غير عربية» ورثت 4 مشاريع قومية غير عربية الجغرافيا العربية، ابتداء من المشروع الأميركي القائم على السيطرة على آبار البترول ومكامن الثورة الطبيعية، إضافة إلى حماية أمن الكيان الصهيوني ومصالحه في المنطقة العربية. المشروع الثاني هو المشروع الصهيوني الساعي إلى الحيلولة دون وجود أي وحدة عربية بين بلاد الشام وشمال أفريقيا عامة ومصر خاصة، والرامي إلى استرداد فكرة من غياهب الماضي، لا من أجل تكريسها على الواقع فحسب وإنما لتأمين الدور الوظيفي في الشرق الأوسط للسيد الأميركي. المشروع الثالث هو المشروع الفارسي الشيعيّ القائم على التوسّع في الأقطار العربية عبر استغلال الروافد الدينية الشيعية للشعوب العربية قصد تحويل "الأقليات" و"الطوائف" إلى بيادق في رقعة الشطرنج الدولية، أو خطوط دفاع متقدمة عن المشروع الفارسي، وهو ما تمّ، فعلا، في لبنان، ويتم، حاليا، في اليمن وسورياوالعراق. أما المشروع الرابع فهو المشروع التركي وفق الطرح "الأردوغاني" ويقوم هذا الخيار على فكرة "الخلافة الباردة الإخوانية" المتمثلة في تحوّل إسطنبول – وليس أنقرة- إلى المرجعية الفكرية والسياسية والإيديولوجية للتيارات الإخوانية الحاكمة في البلدان العربية عبر تعميم "النموذج التركي" القائم على ثنائية المزاوجة بين الديمقراطية والإسلام. وهو ما تمّ فعلا في العديد من الأقطار العربية في تونس زمن الترويكا وليبيا فترة "المؤتمر الوطني" ومصر خلال أيام حكم الإخوان. كرّس الربيع العربي مقولة "تقاسم المشاريع الإقليمية" للجغرافيا العربية، ذلك أنّ تفكيك الجيوش العربية وتفتيت السيادة الترابية وتسليح الميليشيات وتحوّل المعارضات السياسيّة إلى مجالس انتقالية مسنودة بالسلاح وبالاعتراف الدولي ومستولية على جزء من التراب الوطني، يضاف إلى ذلك إرساء عواصم رديفة للعواصم المركزيّة الشرعيّة، كلّ هذا مكّن المشاريع الأربعة الأجنبيّة من مزيد تقسيم الرقعة العربيّة، وحوّل مناطق التماس إلى مناطق وتسويات بين الفاعلين الكبار. ولئن كانت الوظيفية الإستراتيجية هي الخيط الناظم لطبيعة العلاقات بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وفق طرح الباحث عبدالوهاب المسيري، فإنّ التفاهمات حكمت العلاقات التوسعيّة بين تركياوإيران في المنطقة العربيّة. بعيدا عن التصعيد الإعلامي والسجال الخطابي بين تركياوإيران، والذي قد يوحي بوجود تناقضات في السياسة والمصالح والإستراتيجيات بين الطرفين، فإنّ الوقائع تؤكد أنّ التفاهم في تقاسم مراكز النفوذ حكم العلاقة بين المشروعين التوسعين. فسوريا التي استحالت بفعل التدخلين – التركي لصالح المعارضة، والإيراني لصالح النظام – إلى ملعب إقليمي، تمثل أحسن عينة تمثيلية لواقع التفاهم التركي الإيراني في مستوى إضعاف الدولة السورية وتمكنهما بذلك من مقومات قوّة ونفوذ في الشام. كان "تحالف الأعداء" – تركياوإيران – ديباجة أساسيّة لإسقاط النموذج القومي الأخير في المنطقة العربية عقب سقوط العراق في 2003، وليبيا في 2011، وبذلك تكريس مبدأ "البديل"، سواء أكان هذا البديل شيعيا فارسيا يتمثل دمشق كعاصمة خامسة في الإمبراطورية الإيرانية بعد صنعاء وبغداد وبيروت وطهران، أو كان هذا البديل تركيا يقارب سوريا من زاوية الإرث الاستعماري العثماني ويسعى إلى تأبيد احتلال لواء الإسكندرون وضمّ مناطق هامة في الشمال السوري. تحالف «الأعداء» في سوريا وبمنطق التفاهم في تقاسم مراكز القوى، كانت تركيا تؤمّن مصالحها ووجودها في الشمال السوري وتنسّق مع المسلحين المؤيدين لها الذين فككوا العديد من المصانع الحلبية وأدخلوها إلى تركيا وسرقوا الآثار السورية وباعوا النفط السوري بأسعار بخسة لصالح أنقرة. فيما كانت طهران تغرق الاقتصاد السوري – في مناطق سيطرة النظام – بسلعها وبرجال أعمالها وتدعم حضورها العسكري والاستخباراتي المباشر وغير المباشر أيضا. قد تكون مشهديّة الدخول العسكري الميليشويّ الشيعي – ممثلا في القوى الإيرانية والقوى التابعة لها – إلى ريف دمشق لحماية مقام السيدة زينب، المكان المؤسس لوجدانية التشيّع في الشرق الأوسط، والدخول العسكري التركي لحماية ضريح سليمان باشا، الجدّ المؤسس للخلافة العثمانية، في الشمال السوري، ومن ثمّة إخراجه، واحدة من أبرز مشهديات التقاسم التركي الإيرانيلسوريا، رمزا ووجدانا، بعد تقاسمها نفوذا واقتصادا. وكما ورثت تركياوإيران، سوريا بعد أفول المشروع القومي العربي، ورثت القوتان العظميان كردستان العراق عقب سقوط المشروع القومي في العراق في 9 أبريل 2003. «الصراع المدروس» في كردستان على الرغم من خطاب التحفظ التركي الإيراني من إمكانية استقلال كردستان العراق، وما يحمله من استتباعات خطيرة على وحدة البلدين على اعتبار وجود أقليات كردية قلقة في إيران، وثائرة في تركيا، إلا أنّ حجم الوجود الاقتصادي والسياسي للدولتين في كردستان العراق يجعل من خطاب الامتعاض من الانفصال الكردي عن العراق خطابا مراوغا. التقديرات الاقتصادية تشير إلى أنّ تركياوإيران تتقاسمان 60 بالمئة من سوق كردستان العراق بواقع 35 بالمئة لتركيا و25 لإيران. وتؤكد أحدث أرقام اقتصادية تركية أن حجم التبادل التجاري بين العراقوتركيا بلغ في 2014 نحو 20 مليار دولار، 70 في المئة منه مع إقليم كردستان أي بواقع أكثر من 12 مليار دولار، فيما تشير المصادر الاقتصادية الإيرانية إلى أن حجم التبادل التجاري العراقي – الإيراني وصل في ذات السنة إلى 15 مليار دولار، نصفه تقريباً كان مع إقليم كردستان. تكشف لغة الأرقام، أنّ أكثر من 1300 شركة تركية تعمل في كردستان العراق، بواقع أكثر من نصف الشركات الأجنبية العاملة في الإقليم، فيما يؤكد المتحدث باسم اتحاد مستثمري كردستان العراق ياسين محمود أن عدد الشركات الإيرانية العاملة في الإقليم أكثر من مئتي شركة تعمل في مختلف المجالات. وأضاف أن إيران تبني مدينة صناعية في مدينة السليمانية تضم مئتي معمل، وتبلغ كلفتها ثلاثة مليارات دولار. في هذا المفصل الاقتصادي يؤكد رئيس رابطة التنمية وتطوير التجارة والصناعة في إقليم كردستان العراق طه حمه رشيد أن العلاقات التجارية بين الجانبيْن (يقصد الإيراني الكردي) قديمة وتوطدت خلال الحصار الاقتصادي على العراق. وأضاف أن إيران لها دور كبير في تنمية المشاريع في الإقليم. وقال إن ازدهار العلاقات التجارية بين الجانبين يعود للروابط العائلية. الوجود التركي الإيراني في كردستان العراق له وجوه سياسيّة تعاضد الوجه الاقتصادي، ذلك أنّ طهرانوأنقرة تقاسمتا المشهد السياسي الكردستاني استباقا لأي توجّه يفضي إلى استقلال رسميّ فعلي يجد صدى انفصاليا لدى أكراد الدولتين. ذلك أن تركيا تضع نفوذها السياسي والاقتصادي وراء مسعود البارزاني رئيس الإقليم، وزعيم الحزب الكردستاني الديمقراطي، مستغلة نفوذه الرمزي والسياسي على أكراد العراقوسورياوتركيا قصد تحقيق مآرب عديدة من بينها مزيد توسيع الهوّة السياسية بين النظام السوري والقوى الكردية، وبالتالي تسهيل الوصول إلى تسوية سياسية في البلاد دون وجود النظام أو أركانه على الأقل، إضافة إلى تأمين الدعم اللوجستي اللازم لتحقيق هدنة دائمة بين "العمّال الكردستاني" والمخابرات التركية، سيما وأنّ الزعيم التركي الكردي عبدالله أوجلان فقد الكثير من الكاريزما السياسية التي تخوّله لتوقيع "اتفاق الشجعان" مع نظام رجب طيب أردوغان. فيما تضع إيران بيضها السياسي في سلّة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني ساعية بذلك إلى تأمين عدّة أهداف لعل من بينها تحجيم دور مسعود البارزاني المعارض الأكبر للنظام السوري والمحرّض سابقا على انتفاضة أكراد سوريا على النظام والقابل ب"عسكرة" الثورة ضدّ دمشق. وقد تكون حالة الفراغ في كرسي الرئاسة التي يعيشها اليوم الإقليم واحدة من مشاهد التنافس المدروس بين طهرانوأنقرة، والذي سينتهي إلى تسوية سياسية اقتصادية بين الطرفين تجعل للإقليم "رئيسا"، وللعاصمتين مزيدا من "النفوذ" والمصالح. إجماع حول نقطتين اللافت أنّ الطرفين يخوضان حالة من "الصراع المدروس" على البلدان العربية وحتّى الأفريقية واللاتينية، وبالإمكان دراسة حالة التنافس بين أنقرةوطهران وتل أبيب في أفريقيا وفي أميركا اللاتينية، إلا أنّ المشروعين متفقان على نقطتين على الأقلّ. الأولى كامنة في عدم التدخل في شؤون الدولة الأخرى بأي شكل من الأشكال، يمكن هنا العودة إلى انتخابات 2009 في إيران ومراقبة الموقف التركي الحذر جدّا، أما النقطة الثانية فتتمثل في التكامل الوظيفي بين الطرفيْن حيث أنّ تركيا تفضل التعامل مع الأحزاب الإخوانية الإسلاموية، فيما تحبّذ إيران اللعب والخوض في المربّع الإسلامي مهما كان لونه لقربه من طرحها بغض النظر عن التباين العقائدي، هنا يطرح المثال المصري خير مثال على ذلك، فرغم معارضة إيران لسياسة الإخوان المدعومين تركيّا في سوريا، إلا أنّها تفضلهم عن التيارات اليسارية والقومية ناهيك عن القوى العسكريّة. كثيرا ما يتطرّق سياسيو تركياوإيران إلى "سايكس بيكو" على أنها نقطة تفتت الدولة الجامعة على أنقاض تقاسم فرنسا وبريطانيا للخلافة العثمانية بينهما عقب الحرب العالمية الأولى، بيْد أنّهم في الحقيقة يمارسون ذات سياسة "سايكس بيكو" ويطرحون وينفذون في العالم العربي خارطة قوى جديدة قائمة على الهويات القديمة المتجدّدة والجديدة المتأسلفة، والحقيقة الأشد إيلاما أنّ العالم العربي سيعيش "سايكس بيكوات أخرى" بفاعلين جدد ودول أخرى غير عربية طالما أنّه ارتضى لنفسه موقع "الجغرافيا الجامدة" لصانعي التاريخ والحاضر والمستقبل.