يرويها ماء العينين مربيه ربو ا ليلة اختطافي من طرف البوليساريو الحلقة13 ما أصعب أن يعيش الإنسان فى وهم لأكثر من أربعين عاما، وفجأة يكتشف أن ما كان يؤمن به مجرد خزعبلات لا تخدم مصلحته ولا مصلحة بلاده، ويدرك، بعد رحيل العمر، أن الواقع شيء آخر حجبته الجهات المستفيدة عن الأنظار. هذا هو حال العديد من قيادات البوليساريو سواء التي التحقت بأرض الوطن أو تلك التي تتحين الفرصة للانفلات من مخالب المخابرات الجزائرية. بحرقة من تعرض للاختطاف، وهو شاب يافع، يتحدث ماء العينين مربيه ربو، المدير السابق لإذاعة البوليساريو، وعضو مؤسسة ماء العينين للتراث، عن سنوات طوال من التعذيب وسط المخيمات، وما تلاها من عمل قسري داخل المخيمات وعلى التراب الجزائري. جلسة شاي، فإغماءة، فشعور بقيد يدمي المعصمين... ثلاث محطات غير محددة زمنا، رغم تقاربها، ستكون بداية حياة جديدة وسط القيادة الأولى للبوليساريو. سجن كبير لا مجال فيه للتمرد رغم الشعور اليومي بحرقة الفراق. مغاربة تتلمذوا ودرسوا بجامعات بلدهم المغرب، تحولوا، بمؤامرة محبوكة من جزائر بومدين، إلى حاملين لسلاح المعسكر الشرقي، ولأفكار لا تحمل من الثورية والتقدمية سوى ما يليق بمقاسات أطماع الجارة الشرقية التي كبح جماحها الملك الراحل الحسن الثاني. وقائع وشهادات ينقلها لقراء بيان اليوم، في حلقات، الأستاذ ماء العينين مربيه ربو، الذي يحكيها، من مواقعه المتنوعة والمسترسلة زمنا، سواء كسجين، أو كمؤطر عسكري، أو كصحفي، ثم كمدير لإذاعة البوليساريو. مشاهد صادمة، بل مفجعة بكل معنى الكلمة، يرويها لنا ماء العينين، تنقلنا إلى ما وراء سياجات المخيمات وأسوار السجون، وإلى صالونات محمد عبد العزيز وزوجته خديجة حمدي، قبل أن تمضي بنا إلى العاصمة الجزائر التي ستكون، بعد محاولات الفرار، نهاية الكابوس الطويل، وبداية معانقة الوطن الأم المغرب. برزت مطالب الشباب المؤسس للبوليساريو في فترة عصيبة من تاريخ المغرب، في وقت كانت فيه الدولة خاضعة لضغوط قوية من الخارج والداخل على حد سواء. ويمكن الجزم بأن تلك الفترة، أي خلال سنوات السبعينيات، لم تكن أي سلطة أو قوات سياسية في المغرب قادرة على الاستجابة لمطلب ذي طابع جهوي، مهما كان مشروعا. خلال هذه الفترة، كان المغرب يواجه تحديات داخلية وخارجية كبيرة. ترتيب الأولويات كان مختلفا بالنظر إلى ظروف المرحلة، واتسامها بسياق طغت عليه الحرب الباردة والنزاعات العربية التي لم يكن لها أول ولا آخر. ولهذا السبب بعينه، تحركت نزعة الانتقام بداخل جزء من هؤلاء الطلبة الجامعين المغاربة من أصل صحراوي، عقب قمع مظاهرة طانطان وما أعقبها من اعتقالات وسوء معاملة وتنكيل. وقد دفع سوء المعاملة بهؤلاء الشباب الجامعيين إلى التحالف مع بعض البلدان، في ظل سياق الحرب الباردة والنزاعات العربية والأفريقية. وخلال تلك الفترة، كانت التحالفات مباحة. هؤلاء الطلبة الجامعيون أظهروا نقمتهم على بلدهم الأصل، المغرب، حيث عاش آباءهم وأسلافهم. لقد حارب آباءهم بلا كلل في صفوف جيش التحرير من أجل تحرير البلاد التي سيدرس فيها هؤلاء الشباب الصحراوين فيما بعد. نافح آباءهم بكل ما أتوا به من قوة على محمد الخامس، وقدموا بيعتهم لابنه الراحل الحسن الثاني. هكذا إذن كان مشهد التناقضات العامة لمغرب سنوات السبعينيات. غير أن أحداث الشغب التي حصلت لم تؤثر على المسار العادي للتاريخ، لسبب بسيط هو أن قضية الصحراء كانت في الأصل مسألة بين المغرب وأسبانيا بشأن إنهاء الاستعمار. كان المغرب يخضع لحماية قوتين استعماريتين، هما فرنسا والمغرب، وكان عليه أن يسترجع تدريجيا وعبر مراحل متعاقبة التراب الذي كان يقع تحت الحماية الأسبانية، ابتداء من منظفة الشمال وطنجة عام 1956، فطرفاية وطانطان عام 1958، ثم سيدي افني عام 1969، والصحراء عام 1975. كل ذلك كان يندرج في إطار الصيرورة التاريخية. أنا طبعا كنت دائم الاتصال ببعض العناصر الموالية للبوليساريو في الداخلة وفي العيون رغم أنني لم أكن أعلم نوايا البوليساريو وتوجهه، ولا أهداف الحركة، ولا لماذا تم تأسيسها، ولا ما هو برنامجها، ولا من يتولى تسييرها أو تدبيرها ولا حتى الاتجاه الذي تسير إليه؟. والواقع أن الشباب الذين أسسوا الجبهة لم يعلنوا حينها قط عن أية نزعة انفصالية. في تلك الأثناء، كونت السلطات الاستعمارية الاسبانية بالعيون حزبا مواليا لها هو حزب الاتحاد الوطني الصحراوي وضعت على رأسه خليهن ولد الرشيد الذي كان متزوجا باسبانية. هذا الحزب كان ينادي بتأسيس دولة في الصحراء مستقلة عن الجميع، تحمل راية بها شريطين، أصفر وأزرق. لا أعلم هل يرمز اللونان المختاران إلى الأرض والسماء، أم إلى الفوسفاط والبحر. وأذكر أنه كانت له حوالي 10 أو 12 مبدءا مدونا في صفحة واحدة كانوا يوزعونها على الناس. لم أنشغل بالبوليساريو ولا بمخططاته، فقد كان بالي، وأنا داخل جزر الكناري، موزعا بين الرغبة في الالتحاق بكلية الحقوق بهذه الجزر، أو الذهاب إلى مدريد للقاء بعض الأساتذة الذين كانوا يدرسوني في معهد اللغات. لكن تكن ظروفي المادية تسمح لي بالسفر إلى مدريد. فعدت إلى الداخلة عن طريق العيون حيث تم اعتقالي من طرف السلطات الاسبانية التي أخذتني إلى مركز الشرطة ووضعتني في السجن بدون سبب، ومنعتني من الاتصال بأي كان. كان مكان الاعتقال عبارة عن بيت صغير مظلم، يتوفر على فتحة صغيرة تكفي بالكاد لمرور علبة سيجارة. هذه الفتحة الصغيرة كانت توصد و تفتح لتمكين المعتقل فيها من التنفس. أصبحت وحيدا في الزنزانة. لا يتكلم معي أحدا ولا أرى أحدا. وبعد أسبوع أصبحت سجينا عاديا إلى جانب ما يقارب 14 أو 15 معتقلا في مخفر الشرطة بالعيون. وهذا المخفر لازال موجودا بالقرب من ولاية العيون، لكنه مدمر. كثيرا ما تساءلت عن التهمة التي انبنى عليها قرار اعتقالي. لا أذكرى سوى أنهم عثروا بداخل حقيبتي في المطار على نسختين أو ثلاثة من مجلة فلسطين الثورة التي كانت تصدرها حركة فتح الفلسطينية. لا أعلم كيف دخلت هذه النسخ إلى حقيبتي. ربما تم ذلك دون أن انتبه عندما كنت أضع كتبا و أغراضا في الحقيبة. بعد مضي شهر كامل، غادرت السجن. ومن عجائب الصدف أنني التقيت بالسيد خليهن ولد الرشيد في نفس الشارع الذي يتواجد به مخفر الشرطة. كان يلبس جاكيت من الجلد الأسود. عرض علي الانخراط في الحزب. اعتذرت له بلباقة قائلا إنني خارج بالكاد من السجن مشوش البال، وليست عندي أية قابلية للالتزام بشيء إلى غاية القيام بزيارة عائلتي. عندما قرر أرياس نافارو، رئيس الحكومة الفرنكفوية، عام 1974 التصدي للبوليساريو في الصحراء المغربية، سيلتفت إلى مهندس شاب هو خليهن ولد الرشيد. فالشاب الذي ولد ربع قرن قبل ذلك بنواحي كلميم، خريج المدرسة المعدنية بسانتا آنا بمدريد، ومتزوج من اشبيلية من أسرة محترمة، كان يجمع كل الأوصاف المطلوبة، فهو كما وصفه نافارو"شاب، وسيم، له أناقة الاثنين، طموح، حسن الطباع، وذكاؤه لا يشك فيه". وعندما كلف بتأسيس حزب الوحدة الوطنية الصحراوية (البونس)، تولى العقيد رودرغيز دي فيغوارا من جهاز المخابرات الإسبانية الإشراف عليه، وساعده على الاستقرار بمدينة العيون كمهندس بالصناعة المعدنية، وتم تخصيص، حسب الوثائق الإسبانية "ثمانية ملايين بسيطة (أي نحو 480 ألف درهم) للحزب، لشراء المكاتب والسيارات والراتب". لم يدع خليهن الذي لم يكن يخفي طموحه السياسي الفرصة تمر دون أن ينتهزها. ومنذ ذلك الوقت أصبح لقبه السري داخل جهاز المخابرات الإسبانية هو "الغواصة الصفراء"، لأنه كان يتقن فن الاختفاء كلما أراد ذلك عن أعين المخابرات الإسبانية. كانت أول مهمة تم تكليفه بها هي لقاء زعيم البوليساريو الولي مصطفى السيد، "لاختراق حركته والحد من هجوماتها المسلحة ضد المحتل"، كما جاء في إحدى الوثائق السرية للحزب النيوكولونيالي. مغامر ومندفع وصاحب قدرة كبيرة على الكلام، كلها أمور كانت تعطيه الثقة في قدرته على إقناع خصومه بالعدول عن مشاريعه... وعندما وصل خليهن إلى نواكشوط انتظر ثمانية أيام كاملة داخل فندق لمقابلة الولي، لكن هذا الأخير رفض التحاور معه ووصفه أمام قيادات أخرى من البوليساريو ب"الخائن الذي يعمل لصالح مدريد". بعد اللقاء الخاطف بخليهن ولد الرشيد، عدت لمدينة الداخلة. وبعد مضي زمن طويل، اتصلت بي مجددا بعض العناصر الموالية للبوليساريو الموجودة بالداخلة.لم أجد سوى عبارات الاعتذار سبيلا للتخلص منهم. وفي يوم 15 أكتوبر 1975 ،كنت مع بعض الأصدقاء الذين رافقوني إلى بيتي من حيث شربوا كؤوسا من الشاي. انصرف الجميع إلا عنصرا واحدا ظل معي يراقب تتثاقل لساني وأطرافي تحت تأثير المنوم الذي وضع لي في الشاي. لم أعد أرى من جليسي شيئا. فقد فقدت الوعي كليا، ولم أستعده، على ما أعتقد إلا بعد مضي 24 ساعة، حين شعرت بجسدي ممددا على سيارة تطوي أرضا خلاء. كان الفضل في استعادة الوعي يعود لجرح أصاب رجلي ربما تحت تأثير هزات برميل صغير كان إلى جانبي في المقعد الخلفي للسيارة، وهي من نوع "لاندروفير". بعد حوالي ساعتين عن عودة الوعي، توقفت سيارة المختطفين عند عين بنتيلي. عرفت ذلك من سماعي لهم يتكلمون عنها، وعن وسيارة ثانية تسير معنا. أمضينا الليلة في بنتيلي، وفي الصباح الباكر خرجنا وتوجهنا إلى الرابوني قرب تندوف.