تستأنف مفاوضات السلام حول أوكرانيا على وقع عودة التوتر الميداني بين طرفي الحرب. إذ خرقت الاشتباكات العسكرية المتزايدة في الأيام الماضية بين الجيش الأوكراني والمتمردين اتفاقية الهدنة التي تعرف ب"مينسك2"، ولكن من دون أن تضع نهاية لها. فلا تزال جميع الأطراف متمسكة بتجميد الصراع ضمن حدود معينة، تجمد بدورها المواقف السياسية، وتمنع إحراز أي تقدم باتجاه تسوية سياسية. كان أحد أسباب ضم شبه جزيرة القرم ودعم التمرد القائم في جنوب شرق أوكرانيا هو خوف النظام القائم في روسيا من أن يشكل المحيط الجديد من حوله خطرا على وجوده واستقراره. يتعلق الأمر إذن بالأمن القومي لروسيا ومحاولتها إبعاد حلف الناتو عن الدول المحيطة بها، لكنه يرتبط، أيضا، بطبيعة النظام الروسي الحالي ورغبة الفئة الحاكمة في توسيع قائمة "نجاحاتها" في المواجهة مع الغرب، بما يخدم تعزيز قبضتها الداخلية. هكذا يبدو الحفاظ على ما تحقق بالنسبة إلى فلاديمير بوتين من المسلمات والثوابت التي لا يمكن التفريط فيها في أي محادثات. وفي سبيل الحفاظ على موقفه، عمل على تعزيز قوة الانفصاليين في أوكرانيا، كما عمل على ترتيب بيته الداخلي، فتابع إقصاء المعارضة، ونفخ في الشعور القومي الروسي من خلال تسليط الضوء على "العدو" القومي لروسيا، أي الولاياتالمتحدة وأوروبا. بالمقابل، تبدي كل من أوروبا وأميركا إصرارا كبيرا على ضرورة تراجع روسيا عن ضم شبه جزيرة القرم، والتسليم بأن أوكرانيا باتت دولة مستقلة خارج فضاء الهيمنة الروسية، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول أفق محادثات السلام التي عاودت الانعقاد قبل يومين، وخيارات أوروبا وأميركا في المواجهة. في أوروبا، هنالك قناعة راسخة بأن الحرب لن تكون أداة لتسوية النزاع القائم مع روسيا. ونقصد هنا بالحرب الصريحة بين روسياوأوكرانيا، ناهيك عن الحرب بين أوروبا وروسيا. هذا خيار مستبعد تماما، ولذلك تبدي الدول الأوروبية تحفظها على اندفاع أميركي متزايد لتسليح الجيش الأوكراني وإرسال مئات المستشارين العسكريين للتدريب. يبدو أن خيار أوروبا الوحيد هو العقوبات الاقتصادية. لكن، ورغم بعض الانعكاسات السلبية على الاقتصاد الروسي والمتمثلة في الركود الحاد وانخفاض قيمة العملة وهروب رؤوس الأموال، لم يكن للعقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي وأميركا حتى الآن أثر يذكر على سياسات فلاديمير بوتين في أوكرانيا، ولا على شعبيته الكبيرة. والحال أن آخر استطلاع للرأي أجرته وكالة "ليفادا" المستقلة أظهر شعبية كاسحة للرئيس بوتين تخطت 86 في المئة، خصوصا وأن الاقتصاد الروسي الذي شهد كابوسا مرعبا في العام الماضي، عاد للتحسن التدريجي بعد توقيع اتفاق "مينسك 2" قبل عدة أشهر، إذ ارتفعت قيمة العملة الروسية بنحو 40 في المئة منذ توقيع الاتفاق وحتى اليوم مدفوعة بتوقف المعارك وارتفاع أسعار النفط. وفي حالة استبعاد كل من خيار الحرب الواسعة من جهة، وتسليم أوروبا وأميركا بالهزيمة من جهة أخرى، يبدو أن السلاح الوحيد المتبقي هو توطيد دعائم الحكومة الأوكرانية، وتوسيع العقوبات الاقتصادية على روسيا، ونقلها إلى حيز جديد يحمل تأثيرا نوعيا. وفي هذا السياق كان لافتا إقرار الحكومة الأوكرانية قبل نحو شهرين إجراء "إصلاحات" على قطاع الطاقة كان يدفعها صندوق النقد الدولي إليه منذ سنوات من دون جدوى من أجل بدء برنامج الإقراض. وبموجب تلك "الإصلاحات" سوف يجري العمل على ضخ نحو 40 مليار دولار في عروق الاقتصاد الأوكراني المتداعي في محاولة لإنعاش الحكومة هناك. فهل هي محاولة لإنعاش الاقتصاد الأوكراني في سياق المواجهة مع روسيا على غرار ما جرى بخصوص اليابان وألمانيا بعد الهزيمة في الحرب العالمية، تجنبا لانتشار المد السوفييتي المعادي؟ لا يبدو الأمر كذلك، فالدولة الأوكرانية ليست في مرحلة إعادة بناء ما بعد الحرب، وإنما في مرحلة الحرب التي تستنزفها بشكل كبير. العملة الأوكرانية تهوي بشدة وقد نجحت مساعدات صندوق النقد الدولي في إيقاف نزيف قيمتها بصورة جزئية. إنها إذن مساعدات لمنع الانهيار وليست لتحفيز الازدهار. منع الانهيار هو أساسي في سياق المواجهة مع روسيا، لكن المساعدات مشروطة أيضا بإصلاح قطاع الطاقة، حيث سترتفع أسعار الغاز بنحو ثلاثة أضعاف وهو ما لن يلقى استحسان الغالبية الشعبية التي تعيش أوضاعا بائسة جدا. لكن النتيجة المأمولة لذلك هي توفير السيولة للحكومة الأوكرانية من جهة، وتخفيض استهلاك الغاز الطبيعي من جهة أخرى، وبالتالي تخفيض الاعتماد على روسيا وتقليص كمية المشتريات منها. وبالتوازي مع ذلك، من المنتظر أن تعمل أوروبا على تنويع مصادر الطاقة لديها وتخفيض اعتمادها على الغاز الروسي في السنوات القادمة. ربما تكون تلك السياسة التي تمتد لسنوات قادمة هي الخيار الوحيد لأوروبا وأميركا في مواجهة الدب الروسي. وخلال سنوات تحققها، يجري العمل على تطويق الصراع بهدنات كثيرة واتفاقيات عديدة قد يكون اتفاق "مينسيك3 هو محطتها القادمة. * كاتب فلسطيني