«جوق العميين» فيلم مفعم بالحياة زاخر بالضحك إلى حدود الألم ربما يكون قد قيل الكثير عن "جوق العميين"، فيلم المخرج محمد مفتكر الأخير، منذ عرضه في الدورة الماضية لمهرجان مراكش الدولي للفيلم، كشريط يمثل السينما المغربية في إطار المسابقة الرسمية لهذا المهرجان ذي المستوى الكبير، حيث تصبح مجرد المشاركة الى جانب التجارب الفيلمية القوية التي تتنافس على النجمة، شرفا كبيرا لسينمانا الناشئة، لم يكن أي منا ينتظر الجوائز لهذا الفيلم لكن المشاركة وحدها بفيلم جميل ومغربي مئة بالمئة في بنائه وفي محتواه، هو ما ظل يغذي الأمل في مستقبل سينمائي واعد لبلادنا في السنوات القادمة. ربما يكون قد قيل الكثير عن " جوق العميين"، أثناء عرضه خلال مسابقة المهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة، قبل وبعد تتويجه بجائزتي الإخراج لمحمد مفتكر وجائزة الموسيقى الأصلية لقطعة من تأليف الدجازمان الفرنسي ديديي لوكوود. الفيلم أعادني إلى فترة الطفولة وأنا أتابع تطوراته، خلال عرض خاص بالصحافة أقيم بالدار البيضاء أول أمس، بحكايته التي تتحدث عن سنوات السبعينات، عودة تحولت معها شاشة العرض، إلى بوابة للسفر عبر الزمن، باتجاه الزمن المغربي لما بعد الاستقلال، بكل تناقضاته، وصراعاته، في سرد بسيط وممتنع غني بالإشارات والدلالات التاريخية، سرد رغم أنه بسيط يرقى عن النزول إلى الشعبوية، بقدر ما يطرح أسئلة كبرى عن اللحظة التي انهزم فيها الحلم المغربي...حلم جيل كامل بالحرية الموعودة عقب رحيل المستعمر الفرنسي، كيف تحول إلى كوابيس قاتلة، عن اللحظة التي اغتيل فيها الشعر والموسيقى وصودرت الأفكار، عن الحب والصداقة وسائر القيم المغربية الجميلة وقد استأنفت رحلتها باتجاه الزوال، وحيث صار مجرد الحلم بالحرية موجبا لوأد الانسان في معتقلات المجهول. صحيح أن الفيلم يتضمن قصة بسيطة عن مجموعة من الشخوص رغم شقاء عيشهم يمنحون السعادة لمحيطهم ولا يترددون في البحث عن لحظات فرح عابر في محاولة عيش، لكن الإطار التاريخي الذي تدور فيه أحداث هذه القصة هو ما تم الاهتمام به بشكل أساسي ورصده بدقة وصدق من خلال فهم جدلي للتاريخ ولحركية المجتمع. جوق العميين، عنوان قصة بسيطة توحي بأننا بصدد مشاهدة عرض كوميدي شعبوي، على العكس مما يوحي به، هو عبارة عن رصد مصائر مشتركة، لفرقة موسيقية تتكون من ثلاثة عازفين، واحد منهم يعمل كمفتش شرطة، راقص، راقصتين، ومغنية. مصير الطفل ميمو ووالده الحسين رئيس الفرقة، ثم جدته، فعمه "عبد الله" المناضل ضد الاستبداد، ثم حبيبته "شامة خادمة الجيران، فالأب الحسين (يونس ميكري) بعد أن يفقد إيمانه بكل شيء، وتخيب توقعاته من الحياة يستسلم للموت... يقول الطفل ميمو وهو محور الحكاية بعد موت والده: " ربما مات بسبب التدخين أو شرب الخمر أو السهر الكثير" لكن الحقيقة غير ذلك، فقد قتله القهر بعد فشله في إذاعة فنه، وفقدان حبيبته (مجدولين الإدريسي)، وانقلاب صديقه الحميم مصطفى، مفتش الشرطة، عليه (الراحل محمد بسطاوي) اعتقال أخيه الصغير المثقف المتنور الذي يوزع مناشير تطالب بالديمقراطية (فهد بنشمسي)، وانفصاله عن زوجته (منى فتو)، الأب مات ببساطة لأنه لم يستطع أن يجعل المستقبل من خلال ابنه محمد أحسن من الماضي الذي يشخصه. للتذكير فإن فيلم جوق العميين قد ضم نخبة من الممثلين المغاربة النجوم، تألقوا داخل فضاء الحكاية ومنحوا تفاصيلها الكثير من الصدقية والعفوية، وتألقوا كل حسب دوره وجاء الفنان محمد الشوبي في دور كوميدي جميل لم يضيع حق المتفرج في الابتسامة... الراحل محمد بسطاوي غني عن كل وصف ففي دور مفتش الشرطة وعضو الفرقة الموسيقية الصديق الذي يتحول الى عدو يقدم لنا دورا مركبا لعله من بين أجمل الأدوار التي قدمها للسينما. يونس ميكري في دور الحسين أو الفنان الذي اكتشف أن كل شيء حوله مزور، بداية من نتائج طفله في المدرسة الى كل تفاصيل الواقع المحيط به، في هذا الدور بصم الفنان ميكري على دور كبير حقيقة، دور يجعله أشد قربا من الواقع ومن المشاهد المغربي. مجدولين الإدريسي في دور الشيخة برقصها الشعبي الجميل بخفة دمها، وابتسامتها المشعة رغم معاناتها الشديدة، قدمت دورا محوريا في بناء شريط جوق العميين. الفنانة الكبيرة فاطمة الركراكي في دور الجدة التي تنطفئ بعيدا عن سياق الأحداث وهي امرأة ترملت في شبابها وقدمت حياتها كرما لخدمة ولديها. كما يجدر التنويه بالطفل إلياس جيهاني في دور ميمو وهو العنصر الرئيسي في الحكاية، وبأدائه الجيد من بداية الفيلم وحتى اخر اللقطات. تحية أيضا لكل من الممثلين المتألقين: منى فتو، وفدوى طالب ، وسليمة بنمومن، وفهد بنشمسي، وعبدالغني الصناك، ومحمد اللوز، وسعاد النجار وعلية عمامرة. "جوق العميين" فيلم مفعم بدفء الحياة زاخر بالمشاعر المتنوعة من الضحك الى حدود البكاء ومشع بالألوان ضاج بالموسيقى والإيقاعات واللوحات الراقصة. بعد فيلمه الطويل الأول "البراق"، الذي حصد العديد من الجوائز الوطنية والدولية الكبيرة، من أبرزها الجائزة الكبرى ل"فيسباكو" مهرجان السينما الإفريقية بوغادوغو، والجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم، يتوفق محمد مفتكر في نسج خيوط حكايته الجديدة على منوال المخرجين الكبار، مختصرا في لغة الحوار المنطوق تاركا للغة السينمائية، في لحظات الصمت، المجال الرحب لتقول كل شيء.