منذ أن خطت أناملي أولى كلمات "الأطلسي التائه" وأنا أترقب الحضور بين ظهراني هذه المنطقة العامرة بأهلها وتاريخها الضارب في العمق، لقد كانت منطقة تاغيا بنواحيها الشاسعة موطنا للإنسان منذ القدم، لذا لن تعدم لها ذكرا في كتب المتقدمين والمتأخرين، كحاضرة أمها الناس كما أموا غيرها من الحواضر كفاس ومكناس وغيرهما. وقد زاد المنطقة بهاء حلول الولي الطاهر الصادق أبي يعزى الهسكوري في جبالها وشعابها، فرحبت به الأرض وما ضاقت، وشاعت في قلوب الناس ألفة ورحمة وبلسما شافيا للقلوب قبل الأبدان. لا يمكن وأنت تنعم بهذا الجوار الباذخ سوى أن تتداعى في القلب والوجدان سيول من العواطف الجياشة والكلمات النيرة المتدفقة، وكأنها الجدول الرقراق سواء بسواء، فتغرقك في روح وريحان وجنات النعيم. في أحضان مولاي بوعزة احتضنني والشاعرة المتألقة سعدية بلكارح بهاء الطبيعة ورونقها ودفء الناس ومحبتهم. ترحيب وكرم ضيافة واحتفاء يليق بهذه الربوع وأهاليها. أينما وليت وجهك تجد وجوها بشوشة منطلقة، تعبر عن امتنانها بهذا الحضور الأدبي، الذي اعتبروه سابقة في تاريخ المنطقة، التي تعرف نشاطا ثقافيا محدودا رغم المؤهلات الكبيرة طبيعيا وبشريا ورمزيا، فالناس هنا إما أنهم يمتلكون الإمكانيات المادية لممارسة هواية القنص المنتشرة على نطاق واسع، خاصة وأن المنطقة معروفة بانتشار وحيشها في الغابات الممتدة على مدى البصر، وإما أنهم يلوكون الفراغ في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، ومنهم من يسقط بين براثن بعض العادات المتوارثة غير المناسبة، التي ترتبط جهلا وظلما وعدوانا بالتصوف، ومما يثلج الصدر، ترى الأهالي وخاصة الشباب منهم ينظرون إليها بعين ساخطة، وهم مصممون على محاربتها بالفعل الثقافي المتنور والمستمر. لقد أتاحت لي هذه الرحلة الأدبية برفقة الشاعرة سعدية بلكارح ملامسة عمق الإنسان الأطلسي عربيا وأمازيغيا، فرغم التنافس الخفي في أحقية المكان ووليه الصالح المسجى في ضريحه العامرة، فحين يجد الجد، يتداعى الجميع نحو العمل والتفاني فيه متناسين خلافاتهم إلى حين. خلال حفل التوقيع لا يمكن للمرء سوى أن ينبهر بالإقبال العاطفي على الأدب، فحتى من لم تسعفه إمكاناته على اقتناء الكتب، تشعر بمشاركته الوجدانية للكاتبين صاحبي الإصدارات المستهدفة بالتوقيع. وكانت "حبات مطر" تنعشنا برذاذها الخفيف، فتنزل على حفلنا الجميل بردا وسلاما. في هذا النشاط الثقافي تعددت الانتماءات الاجتماعية للحاضرين، فتجد الطالب الباحث والتلميذ المتطلع للمزيد من المعرفة، والأستاذ المربي، والمدير الحالم بمستقبل أفضل للتلاميذ الذين في عهدته، والإمام الفقيه الذي لم يمر سوى دقائق على إلقائه خطبة الجمعة في الجامع التابع لبناية الضريح، حتى حل بحفلنا مشاركا ومناقشا ومحتفيا بالأدب، والمسؤول الجماعي، والمرأة التاغية التي أبت سوى أن تشارك أخاها التاغي الاحتفاء بالأدب في رحاب تاغيا العامرة. خلال الحفل تعدد النقاش وتشعب ما بين الحضور، فتناول الحاضرون بالمناقشة والتحليل واقع المنطقة من حيث التنمية المنتظرة المرجوة إنصافا للمنطقة وأهلها، وآفاق العمل الجمعوي والثقافي، كما تم الاتفاق على مشاريع مستقبلية، تخرج المنطقة من عزلتها الثقافية المفروضة عليها بفعل الموقع الجغرافي الصعب بالخصوص، فتحمس الجميع للعمل سويا من أجل تحقيق ذلك، خاصة وأن البادرة الشبابية التي دشنها "نادي تاغيا" بدت واعدة وكسرت أفق انتظار المتتبعين، فكانت الوعود بأن يكون الموسم القادم أكبر وأكثر نجاحا بإمكانات مادية أقوى.