على هامش انعقاد اللقاء العربي اليساري بالرباط... على هامش اللقاء اليساري العربي الخامس الذي سيعقد في الرباط اليوم وغدا (20 و21 فبراير 2015)، وعلى ضوء ما سيتم التداول حوله من إشكاليات فكرية وسياسية ذات أهمية بالغة في مسيرة نضال شعوب بلداننا العربية، وانطلاقا مما راكمه حزبنا طيلة ثلاث سنوات من التدبير المشترك للشأن العام من طرف فصائل سياسية، مختلفة إيديولوجيا ومؤتلفة سياسيا على أساس برنامج إصلاحي ذي توجه حداثي ديمقراطي، ارتأينا أن نساهم بوجهة نظر تضع هذه التجربة في إطارها المفاهيمي وسياقها التاريخي آملين أن يكون هذا الإسهام المتواضع لبنة في إذكاء النقاش خدمة لمشروع اليسار العربي الحداثي، الديمقراطي والاشتراكي. 1- ضرورة التمييز بين الدين كعقيدة والدين كممارسة عندما نتحدث هنا عن الدين، فلسنا نقصد العقيدة أو الإيمان أو التدين، أي علاقة الإنسان الوجدانية والروحية بما يعتبره مقدسا ومطلقا، هذه العلاقة التي تشكل خصوصية وعيه بالكون والطبيعة والمجتمع، وإنما نقصد التجلي العملي النسبي لهذه العلاقة في صور مختلفة من الوعي والممارسات الاجتماعية وخاصة في مجالي السلطة والنظام الاجتماعي. حقا إنه من التعسف أن نفصل بين العقيدة الدينية والتجليات والممارسات العملية التي تتجلى فيها، ذلك أن هذه التجليات إنما تتم باسم هذه العقيدة وفي إطار مفاهيمها وقيمها، على أن هناك فارقا بين الطابع المطلق الوجداني الذي تتسم به هذه العقيدة، والطابع النسبي العملي الذي تتسم به هذه الممارسات والتجليات. ولهذا، فالعقائد الدينية تتنوع وتختلف بل تتصارع رغم صدورها عن شكل واحد من أشكال الوعي هو الوعي الوجداني الروحي، بل تتنوع وتختلف وتتصارع أشكال الوعي ومظاهر التجليات والممارسات داخل العقيدة الدينية الواحدة، وليس هذا النوع والاختلاف والتصارع إلا تعبيرا عن مشروعات إنسانية اجتماعية مختلفة لتنسيب المطلق تنسيبا اجتماعيا أو للارتفاع بالنسبي الاجتماعي إلى مستوى المطلق بهدف إضفاء الشرعية والقداسة على هذه المشروعات في لحظات تاريخية واحدة أو مختلفة. وهذا ما جعل من الدين الشكل الذي كانت ومازالت تتخذه وتتسلح به العديد من الصراعات السياسية والاجتماعية طوال التاريخ البشري، ولهذا لم تنفصل الممارسات السياسية – في أغلب الأحيان- عن الرؤى وأشكال الوعي الديني، بل كانا دائما وجهين ومظهرين لعملة واحدة هي الصراع الطبقي الاجتماعي. قد يكون من الممكن أن نتبين عبر التاريخ ثلاثة أشكال من الممارسات الدينية: الشكل الأول: هو الشكل الذي تدعم فيه الممارسات الدينية السلطة السياسية السائدة، بإعطائها المصداقية والمشروعية الروحية والأخلاقية وتبرير ممارساتها وإعادة إنتاج إيديولوجيتها، مستندة في ذلك إلى التأويل الخاص للنصوص الدينية تارة، أو التمسك الحرفي بها تارة أخرى. أما الشكل الثاني: فهو المعبر عن الشعور بالعزاء عن الشقاء الأرضي الدنيوي تطلعا وأملا في السعادة الأخروية، مع مايتضمنه هذا من رضوخ للأوضاع السائدة مهما كانت ظالمة مستبدة، وهذا الشكل هو امتداد موضوعي للشكل الأول رغم ما قد يتضمنه من رفض معنوي سلبي للأوضاع السائدة. أما الشكل الثالث: فهو الشكل الثوري الذي يتمرد على الأوضاع الظالمة والمستبدة السائدة ويسعى إلى تغييرها في ضوء تأويل خاص للنصوص الدينية وفهم موضوعي للأوضاع السائدة. وما أكثر ما تداخلت هذه الأشكال الثلاثة من الممارسات الدينية وتداولت مواقعها، بل ما أكثر ما انتقل الموقف الثوري إلى نقيضه التبريري المحافظ. فالمسيحية كانت في بدايتها قوة رفض ثورية، لكن سرعان ما استوعبتها الدولة الرومانية، بل أصبحت بعد ذلك الإيديولوجية الرسمية للنظام الإقطاعي الاوروبي، وسندا روحيا للغزو الصليبي الأوروبي للمشرق العربي، ثم برزت فيها الحركة البروتستانية كرايات لثورات الفلاحين ضد النظام الإقطاعي وكسند للنظام الرأسمالي الصاعد. وفي عصرنا الراهن نجد المسيحية تتخذ أحيانا أشكالا بالغة الجمود والتخلف في كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية، إسبانيا، البرتغال... ولكنها تتخذ أشكالا إصلاحية، بل قد تتخذ شكلا بالغ التقدم والثورية كما هو الحال في حركة"لاهوت التحرير" المناضلة ضد الإمبريالية والرأسمالية والتبعية في أمريكا اللاتينية. ونجد نفس الظاهرة في الممارسات الدينية الإسلامية، ذلك أن الإسلام في ممارسته الأولى كان ثوريا كرؤية فلسفية كونية وكحركة تنظيمية اجتماعية، ولكنه مع الدولتين الأموية والعباسية أخذ مسارا سلطويا استبداديا خالصا في معظمه، وتحول، بالتالي، الحكم الإسلامي، على حد تعبير ابن خلدون، إلى "حكم عضوض ". وبرغم هذا فقد قامت حركات اجتماعية عديدة من الرفض والتمرد والثورة في مواجهة هاتين الدولتين، وأيضا طوال التاريخ العربي الإسلامي، سواء على المستوى الفكري أو المستوى العملي، مثل حركة الخوارج والزنج والقرامطة، فضلا عن التيارات الفكرية العقلانية المختلفة كالمعتزلة والمتكلمين و الشيعة... 2- الممارسة السياسية للدين إن الممارسة السياسية للدين لا يصح أن نحكم عليها حكما مطلقا بالمحافظة والرجعية أو بالتقدم والثورية وذلك لاختلاف تجلياتها العملية، وملابساتها الموضوعية، فليس مطلق الدين ومطلق الإيمان هو معيار الحكم على هذه الممارسات، أي موقفها من القضايا والمصالح الأساسية للشعوب ولقواها المنتجة. ولهذا فإن اتخاذ مطلق الدين عنوانا لسياسة أو معيار للحكم والتقييم على سياسة معينة، إنما هو خلط بين العقيدة الدينية والممارسة السياسية بشكل عام، والممارسة السياسية الدينية بشكل خاص، وهي محاولة لإخفاء حقيقة ما هو عملي نسبي وراء ما هو مقدس مطلق. الدول و السياسات و الممارسات والمصالح الاجتماعية ومشروعات التنمية المختلفة لا تنقسم إلى مسلمة ومسيحية ويهودية و بوذية...، وإنما تنقسم إلى دول وسياسات متحررة وأخرى تابعة، وإلى سياسات رأسمالية وأخرى اشتراكية، و إلى سياسات مستبدة و أخرى ديموقراطية... إلى غير ذلك.. وداخل هذه السياسات تقوم أنماط مختلفة من التوجهات والمواقف الدينية المتوافقة مع هذه السياسات أو المتعارضة معها. ولهذا، فإن اتخاذ مطلق الدين معيارا للحكم والتقييم لهذه السياسات هو طمس لحقائق الصراعات والممارسات والمصالح المختلفة وخلط بين المفاهيم والقيم والمواقف المتعارضة. ولهذا أيضا، فالموقف من الدين، ومن الإيمان بشكل عام كوعي ذاتي، ليس ولا ينبغي أن يكون موقفا تاكتيكيا براغماتيا كما تتصور بعض القوى اليسارية، أو موقفا استغلاليا انتهازيا كما تفعل القوى اليمينية، وإنما هو موقف استراتيجي يقوم على الاحترام والتقدير والتفهم التاريخي العميق لحقيقته دون أن يلغي هذا، الحق الإنساني في أشكال مغايرة من الوعي الموضوعي والعلمي بالكون والطبيعة والمجتمع. وهذا ما أفضت إليه أشغال مؤتمر الحزب الشيوعي المغربي المنعقد سنة 1966 بالدار البيضاء. 3- الحزب الشيوعي المغربي والدين الإسلامي يعد المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي المغربي من المحطات الأساسية في تاريخ حزبنا حيث قدم الرفاق خلاله نقدا ذاتيا لمقاربتهم السابقة للواقع الاجتماعي والثقافي المغربي مؤكدين على ضرورة تعميق التفكير لمعرفة خصوصية هذا الواقع والالتصاق به والإدراك العميق لمقوماته ومكوناته، وذلك عبر منهاجنا التحليلي الجدلي الذي يمزج بصفة خلاقة بين ما هو وطني خصوصي وما هو كوني. إن هذا التحول العميق في المقاربة هو الذي هيكل ويهيكل لحد الآن مواقفنا مرورا من حزب التحرر والاشتراكية الممنوع إلى حزب التقدم والاشتراكية الحالي. لذا نرى أنه أصبح لزاما علينا، الرجوع إلى الوثائق التاريخية التي يزخر بها الحزب لمساعدة الباحثين والمهتمين والفاعلين السياسيين على إدراك مواقفنا، الماضية والحالية، وذلك تفاديا لإطلاق أحكام جاهزة لا تفيد شيئا في التقاط السمات الخصوصية الأساسية لواقعنا السياسي المعقد. ونحن بصدد إعطاء بعض الآراء حول الإشكالية المشار إليها في عنوان هذا المقال، لابد من إدراج بعض الفقرات من أطروحات المؤتمر الوطني الثالث للحزب الشيوعي المغربي، والتي تضل، في اعتقادنا، مرجعا أساسيا يغنينا عن أي إضافة أو تعليق، ندرج منها بعض الفقرات المتعلقة بالباب المعنون ''ضرورة التكيف مع الظروف الوطنية الخاصة‘‘ وذلك لفهم ما يجري: "إن ضرورة التكيف مع الظروف الوطنية الخاصة والسمات الخصوصية لمجتمعنا، تفرض على الثوريين، الدراسة، الملاحظة والمعرفة الدقيقة للمميزات الجوهرية للمجتمع في المرحلة الراهنة من تطوره. 1-الدين الإسلامي: إن أول وأهم هذه المميزات هو الدور الذي يلعبه الدين الإسلامي في حياة البلاد الاجتماعية. إن الجماهير المغربية مؤمنة إيمانا عميقا، ولا ينبغي لتعلقها هذا، أن يكون عرقلة للعمل الثوري ولا اعتناقها الاشتراكية. ومن الخطأ الفادح نقل أشكال من التفكير والعمل صالحة في بلدان الغرب إلى بلادنا. فالكنائس، مثلا، في أوروبا الغربية خاضعة للرأسمالية وتقف في وجه التقدم وتحرير الجماهير. أمابالنسبة للجماهير الشعبية في المغرب فإن الإيمان بالإسلام والطموح إلى العدالة يلتقيان في مجرى واحد من التفكير، وكل فصل في المرحلة الراهنة من التطور السياسي والثقافي والاجتماعي بين الواقع الديني والواقع الاجتماعي لا يمكن أن يكون إلا فصلا مزيفا وجائرا. ولا داعي للماركسيين أن يشتكوا من ذلك ولا أن يبتهجوا به، بل عليهم أن يعتبروه بصفته إحدى المركبات الأساسية لواقعنا المغربي الوطني. ولا ينبغي، لموقف صحيح إزاء الإسلام في بلادنا، أن يفهم كمجرد قضية تسامح ديني أو كاحترام للمعتقدات، كما لا ينبغي أن يعتبر كموقف تكتيكي أو موقف ضروري، بل يجب، على العكس، أن يعتبر كعنصر انخراط حي، واستيعاب منسجم للواقع الوطني في كليته. كما يجب أن يكون أيضا عنصر انسجام لنضالنا مع ظروف وعي شعبنا وعاملا مدمجا، في كفاحنا، لقيم الإسلام التقدمية والتي كانت الجماهير الشعبية تناضل من أجلها الأمس أثناء المعركة في سبيل الاستقلال، واليوم في المعركة من أجل العدالة الاجتماعية و الديموقراطية وضد استغلال الإنسان للإنسان. إن الثوريين المغاربة حينما يجتهدون لإغناء تفكيرهم بإسهامات العقلانيين العرب في الماضي مثل ابن خلدون وابن رشد، عليهم أن يتصدوا بالنقد للتصورات المنحطة والمتقهقرة والخرافات. وبهذه الكيفية، أيضا، يجب عليهم أن يتعرضوا لمحاولات الرجعية لاستغلال الشعور الديني ولاستعمال الإسلام الذي يفرغوه من كل محتوى تقدمي، لفائدتهم، قصد مقاومة كل تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي يرمي إلى تحرير البلاد" إن هذا المنعطف التاريخي الذي أقدم عليه حزبنا، أكدته فيما بعد كل أطروحات المؤتمرات الوطنية التي أعقبت مؤتمر 1966 إلى يومنا هذا. 4/ العودة إلى محددات مشاركة حزب التقدم والاشتراكية في الائتلاف الحكومي الحالي انطلاقا وانسجاما مع هويتنا الإيديولوجية، فإن ما حدد، دوما، تحالفات حزبنا هو التموقع الاجتماعي والسياسي للقوى السياسية الفاعلة عبر ما تدونه في برامجها وذلك بارتباط مع مقتضيات المرحلة ووضعية موازين القوى، الشيء الذي يتطلب منا أن نتصدى لمهمة التغيير بالواقعية التي تقتضيها شروط كل مرحلة من مراحل النضال، الموضوعي من هذه الشروط والذاتي منها. إن أي قرار سياسي لا يأخذ بعين الاعتبار شروط المرحلة ولا يحدد المهمات ذات الأولوية في النضال لتحقيقها هو برنامج غير واقعي. وهذه المهام، في بلدنا، لا تنحصر في القوى اليسارية ولا تنحصر في فئات اجتماعية معينة، بل هي مهمة تعني قوى سياسية واجتماعية مختلفة بل متناقضة فيما بينها، ومتفقة برغم اختلافها وتناقضها على تحقيق هذه المهمة ذات الأولوية في برنامج التغيير والتي، انطلاقا منها، تتحدد المهمات الأخرى التي تتصارع القوى السياسية والاجتماعية وتتنافس فيما بينها، ديموقراطيا حول مصالحها المتناقضة. وسيكون من التعسف والمغامرة في هذه المرحلة بالتحديد تغليب التناقض الاجتماعي الطبقي والاختلاف الإديولوجي في النضال لتحقيق هذه المهمة. وهذا لا يعني أن على القوى اليسارية أن تتخلى عن برامجها الخاصة وعن نضالاتها لتحقيق العدالة الاجتماعية، أي لانتزاع مكاسب من تلك القوى المشتركة معها في تحقيق تلك المهمة المتصلة ببناء الدولة الديموقراطية الحديثة. تلك هي الخلفية الفكرية التي تؤطر ممارسة حزبنا وتحدد اختياراته السياسية، وأيضا التوافقات الإيجابية التي تعزز التراكمات الضرورية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتوسع المكتسبات الديموقراطية والحقوقية. فكيف لنا أن نلام على تحالفنا مع حزب العدالة والتنمية بكونه حزبا محافظا على المستوى الإيديولوجي، يعبر عن مصالح فصيل من البرجوازية الصغرى ذو مرجعية دينية، ولا نلام على تحالفنا مع حزب الاستقلال الذي ينهل قيمه ومبادئه من نفس المرجعية الإيديولوجية، ولم يسبق له قط أن اعتبر نفسه مكونا من مكونات اليسار؟ يا للمفارقة! إنه من الخطأ الانطلاق من نظرة مسبقة وإعمال مقاربة جاهزة لواقعنا السياسي، بل من اللازم القيام بتحليل ملموس لواقع ملموس، ومقاربة الوقائع كما هي لا كما نريد لها أن تكون وقراءتها في حركيتها وفي تفاعلها مع محيطها، فالإيديولوجية الدينية لم تكن قط في ذاتها تقدمية أو في ذاتها رجعية كما سلف ذكره. إن التعاطي الإيجابي، في تقديرنا، مع حزب العدالة والتنمية مع الاستمرار والمواكبة النقديين لإيديولوجيته، وتوسيع نفوذ حزبنا فكريا وتنظيميا، وجمع شمل اليسار... عوامل من شأنها، في نظرنا، أن تساعد على بلورة تيارات ديمقراطية دينية وتحول دون تحول هذه القوى إلى مواقع العداء للتقدم والحداثة. فلترتبط السياسة بالدين وليرتبط الدين بالسياسة، فهذه ليست هي القضية، وإنما القضية أن يتحقق هذا لمصلحة تغيير الحياة الإنسانية وتجديدها وتقدمها، لا لتجميدها وتكريس تخلفها وتغييب حقائقها وإطفاء مشاعل العقل والديموقراطية والإبداع والتقدم في مسيرتها. * عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية