ارتفعت وتيرة وحدة النقاش في الآونة الأخيرة حول مشروع القانون 19.12 المتعلق "بتشغيل وظروف عمل العاملات والعاملين المنزليين"، الذي يوجد قيد المناقشة في البرلمان، حيث ارتفعت أصوات تنادي بضرورة التريث وعدم المصادقة عليه إلى حين تعديل عدد من مقتضياته. المشروع الذي صادقت عليه لجنة العدل والتشريع التابعة لمجلس المستشارين، تم تأجيل عملية التصويت عليه ضمن جلسة عمومية إلى وقت لاحق، وذلك في ظل خلاف حاد حول عدد من مقتضياته، وخاصة منها تلك المتعلقة بتحديد السن الأدنى لولوج العمل المنزلي، إذ ينص المشروع على سن 16 سنة كشرط لولوج هذا النوع من العمالة. والأمر يتعلق هنا، بالنسبة إلى عدد من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين وهيئات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق الإنسان عموما وحقوق الأطفال خصوصا، بقضية تؤرق المجتمع المغربي على عدة مستويات، ومنذ مدة طويلة، هي مسألة تشغيل الطفلات القاصرات، اللواتي يشكلن فئة عريضة من العمال المنزليين ويعانين في أغلب الأحيان من معاملة غير إنسانية من قبل المشغلين، تنتهك طفولتهن وحقوقهن، بل وتهدد أمانهن وحياتهن كما تثبت ذلك عدد من السجلات القضائية التي كانت الضحية فيها طفلات في عمر الزهور رمت بهن الأقدار بين أيدي مشغلين ومشغلات وصلت بهم السادية إلى درجة قتل هؤلاء الطفلات. وبرأي هؤلاء الفاعلين، فإن القانون الذي جاء ليشكل خطوة مهمة في اتجاه الحد من هذه الظاهرة المشينة، وحظي بترحيب قوي على المستوى الوطني والدولي في اتجاه تكريس المغرب لحقوق الطفل وحمايته من سوء المعاملة، يسجل في نفس الوقت تناقضا كبيرا مع هذه الإرادة المعبر عنها، من خلال تنصيصه على سن 16 سنة كحد أدنى لولوج العمل، في انتهاك خطير لما تنص عليه الاتفاقيات الدولية بشأن تحديد سن الطفولة إلى غاية 18 سنة، وكذا مع مقتضيات دستور 2011 الذي ينص على ضرورة حماية الطفل المغربي وتعزيز حقوقه في التعليم والصحة والحماية من كافة أشكال الاستغلال وسوء المعاملة. وفي نفس السياق، أصدر الائتلاف الجمعوي من أجل حظر تشغيل القاصرات في العمل المنزلي بلاغا يناشد فيه أعضاء مجلس المستشارين بعدم التصويت على مشروع هذا القانون، والعمل على تعديله بحيث يصبح منسجما مع التزامات المغرب الدستورية وكذا الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها، وكذا تجريم تشغيل القاصرات والقاصرين في البيوت مع تحديد إجراءات وآليات فعالة للتطبيق ولإعادة إدماج هذه ضحايا الظاهرة. من جانبها راسلت منظمة الأممالمتحدة للطفولة "يونيسيف" الحكومة وممثلي الأمة في البرلمان من أجل إلغاء بنود المشروع المتعلقة بالسن الأدنى للشغل في المنازل. وإذ نوهت اليونيسيف بالعناية التي وجهها المغرب لإشكال عمال وعاملات البيوت، واشتغاله على المعالجة القانونية له، فقد شددت على "أن عمل الأطفال، في أي سن كان، يحرمهم من حقوقهم في التربية والحماية والإشراك، والتنمية والصحة"، و"أن السماح بعمل الأطفال، يشرع الأبواب أمام أنواع مختلفة من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، ومن الاستغلال، مشيرة أن "عمل الأطفال أيا كانت طبيعته يعرقل فرصهم في تطوير كامل إمكانياتهم، ويعيق إدماجهم على الصعيد الاجتماعي. زيادة على كونه يعاكس إنتاجية أي بلد من البلدان". المشرع المغربي يعتبر أن مشروع القانون موضوع النقاش يأتي لتنظيم قطاع عرف لسنوات طويلة كثيرا من التسيب والعبث في تدبيره، وخضوعا للوسطاء ولكافة تشعبات الظروف الاجتماعية الهشة لفئات عريضة من المجتمع، خاصة في العالم القروي، مما كان له الأثر السلبي الشديد ولا يزال على أوضاع الطفولة المغربية وتمتعها بحقوقها المشروعة، ومما يجعل من هذا القانون، في حال تنزيله، طفرة في اتجاه الحد من الظاهرة وتداعياتها. ويعتبر أحمد بوهرو، مدير الشغل بوزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية، في اتصال هاتفي أجرته معه بيان اليوم، أن الخلاف المثار حول تحديد سن ولوج العمل لا يجد له مبررا بما أن مقتضيات المشروع، يقول بوهرو، لا تتناقض مع ما حددته الاتفاقيات المرجعية لمنظمة العمل الدولية بشأن تحديد الحد الأدنى لسن العمل وتحديد أسوأ أشكال عمل الأطفال. حيث ربطت هذه الاتفاقيات الحد الأدنى بعدم النزول عن الحد الأدنى للدراسة الإلزامية المتمثل في ما لا يقل عن 15 سنة. كما أن المشروع لا يتنافى مع المقتضيات المتعلقة بأسوأ أشكال العمالة المتمثلة في أعمال الرق والممارسات الشبيهة بالرق، وأنشطة الدعارة والأعمال الإباحية، والأنشطة غير المشروعة كالمتاجرة في الممنوعات. وقد حدد المشروع، يقول المسؤول، لائحة خاصة بالأنشطة التي يحظر على المشغلين فرضها على العمال المنزليين، كما أقر عددا من الحقوق والمكتسبات لهؤلاء من قبيل التصريح والعطل وعدم العمل الليلي. إضافة إلى أنه لم يغفل جانب المراقبة والزجر حيث حدد عقوبات على عدد من المخالفات وأقر مسألة التفتيش الاجتماعي والتفتيش القضائي في بعض حالات النزاع. وأكد بوهرو أن تغيير القوانين ومعها المجتمعات، يأتي بصفة تدريجية وليس مرة واحدة كما يقول، بحيث سيمكن القانون الحالي من المرور من وضعية غير منظمة ومليئة بالاختلالات إلى مرحلة مقننة وأكثر تنظيما، على أن يتم تعديل وتطوير هذا القانون كلما ظهرت مؤشرات على ضرورة تعديله، مشيرا أن واقع الحال يؤكد وجود فتيات قاصرات في سن صغيرة جدا عن سن 15 سنة يعملن في البيوت وهذا ما يسعى القانون إلى تغييره. إلا أن المستشار عبد اللطيف أوعمو، عضو الفريق الاشتراكي بمجلس المستشارين، يرى أن مشروع القانون، في صيغته الحالية، جاء "متأثرا جدا" بالواقع وبعيدا عن المقاربة الحقوقية والإنسانية وحتى عن مقتضيات دستور 2011 الذي توافق عليه المغاربة. واعتبر أوعمو، في اتصال هاتفي أجرته معه بيان اليوم، أن تذرع الحكومة بالمقاربة الواقعية يتناقض مع "الدور الإصلاحي المنوط بالمشرع وبالتشريع كأداة قوية لتغيير الواقع والتطلع إلى مستقبل أفضل". وأضاف أن المشروع الحالي في حال تبنيه سيجعل المغرب يخلف موعده مع التاريخ في "تسريع وتيرة تغيير العقليات وترسيخ ثقافة جديدة في المجتمع باتجاه واقع تنموي جديد"، وذلك من خلال "إحداث رجة وضجة" حول منع تشغيل القاصرات أقل من 18 سنة. فقد تكون هناك دوما مخالفات للقانون واختلالات في التطبيق، وقد لا يسجن القانون الجديد أحدا، يقول أوعمو، ولكنه على الأقل سيشكل آلة ردعية حقيقية باتجاه الحد من هذه الظاهرة المشينة كما يصفها المستشار الذي يستغرب في ذات الوقت من محاولات الحكومة تمرير المشروع في صيغته الحالية على الرغم من إبداء جميع الفرق في مجلس المستشارين، أغلبية ومعارضة، لآراء رافضة لمجموعة من المقتضيات، وتقديم عدد من الفرق، ومن بينها الفريق الاشتراكي، لعدد من التعديلات التي تم رفضها من قبل الحكومة. وعبر عمر سعدون، عضو الائتلاف الجمعوي من أجل حظر تشغيل القاصرات، في اتصال أجريناه معه، عن أمله في أن تكون مسألة تأجيل التصويت على المشروع في مجلس المستشارين فرصة أخرى لإغناء وتعميق النقاش حوله باتجاه إدخال تعديلات عليه. مشيرا أن الائتلاف يواصل ترافعه مع ممثلي الأمة حول هذا الموضوع، وأنه اتصل أيضا بعدد من الفرق البرلمانية بمجلس النواب التي أبدت مساندتها لمطالب الائتلاف. وأضاف سعدون أن هناك نوعا من التعبئة التي خلقت حول المشروع يمكن الاستفادة منها في تعزيز النقاش المجتمعي حول الظاهرة وبلورة تصورات واقتراحات من أجل مواجهتها. يذكر أن الإحصائيات المتوفرة حول عمالة الأطفال في المنازل بالمغرب، تفيد أن عدد العاملات القاصرات يتراوح بين 40 و80 ألفا، 60 بالمائة منهن يقل سنهن عن 12 عاما، وهي مرحلة من العمر يفترض أن يكن فيها في قاعات التدريس. واستنادا إلى دراسة نشرتها المندوبية السامية للتخطيط في 2013، فإن تشغيل الأطفال في المغرب يعتبر ظاهرة قروية بامتياز، بما أن 9 من 10 أطفال يشتغلون يتحدرون من أوساط قروية، وتشكل الفتيات نسبة 46.7 بالمائة منهم. وتفيد الإحصائيات أيضا أن 75 بالمائة من المشغلين والمشغلات ينتمون إلى الفئات الميسورة بمستوى تعليمي جامعي. كما تشير إحصائيات المندوبية أنه رغم تراجع عمالة الأطفال بصفة عامة في المغرب، إلا أن أكثر من 90 ألف طفل مغربي (ذكورا وإناثا) تقل أعمارهم عن 15 سنة.