من المستبعد أن يطرأ تحسّن على الوضع العراقي، أقلّه لسبب واحد. يتمثّل هذا السبب في أن البلد تفتت ولم يعد هناك من يستطيع اعادة جمعه بأي وسيلة من الوسائل أو طريقة من الطرق. لذلك من المنطقي أن يسعى الأكراد إلى حماية إقليمهم قدر الإمكان، نظرا إلى تمتّعه بحدّ أدنى من الاستقرار، وبقائه في منأى عن الحرب الطاحنة ذات الطابع المذهبي التي تدور في هذا البلد المهمّ من كلّ النواحي، بدءاً بموقعه الجغرافي وانتهاءً بثرواته. من يستعيد التجارب التي مرّ بها العراق في السنوات ال الماضية، أي منذ بدء الحملة العسكرية الأميركية في آذار مارس وصولاً إلى سقوط بغداد في التاسع من نيسان ابريل من تلك السنة، يكتشف أنّ الثابت في كلّ مرحلة من المراحل التي مرّ بها العراق يتمثّل في غياب الوضوح في السياسة الأميركية. لا يزال هناك سؤالان مطروحان. هذا السؤالان هما: لماذا الإصرار الأميركي على احتلال العراق بالطريقة التي حصل بها ذلك؟ لماذا الإصرار الأميركي على تسليم العراق على صحن فضّة إلى ايران؟ ليس من طرف قادر على الإجابة عن أيّ من السؤالين، علماً أن الطفل الصغير كان يعرف أنّ الإصرار على التخلّص من النظام العائلي البعثي الذي كان على رأسه صدّام حسين، من دون خطة مدروسة بعناية، كان الطريق الأقرب إلى الفوضى وإلى اثارة الغرائز المذهبية. لم يكن كافيا جمع المعارضة العراقية برعاية أميركية ايرانية في لندن في كانون الأوّل ديسمبر ، والخروج ببيان يتحدّث عن «الأكثرية الشيعية في العراق»، ارضاء لإيران... وعن «الفيديرالية»، إرضاء للأكراد، كي يصبح في الإمكان القول إن العراق سيكون النموذج «الديموقراطي» لدول المنطقة، كما سيكون نقيضاً للإرهاب الذي تنادي به «القاعدة»، وهو إرهاب «سنّي» بالمفهوم الأميركي. للمرّة المليون كان معظم العراقيين راغبون في التخلّص من نظام لم يأت عليهم وعلى المنطقة سوى بالويلات، خصوصا بعد حرب مع ايران وبعد غزو الكويت صيف العام . كان هناك ما يبرّر الرغبة في الانتهاء من نظام لم يعد لديه ما يقدّمه للعراقيين سوى الفقر والبؤس. يظلّ هذا شيئاً، ويظلّ ادخال العراق في آتون الحروب المذهبية التي لا أفق لها، شيئاً آخر. فالثابت أن من دخل أرض العراق في لم يكن الأميركيون وحدهم يرافقهم البريطانيون وبعض القوات الحليفة. ترافق ذلك مع دخول ميليشيات تابعة لأحزاب مذهبية الأراضي العراقية، آتية من ايران. لم تكن هذه الميليشيات سوى تنظيمات مسلّحة تدرّبت في ايران طوال سنوات واستخدمت في مراحل معيّنة من الحرب العراقية الإيرانية، كما استخدمت في بداية العام في نشر الفوضى في مناطق عراقية معيّنة مستغلّة الهزيمة التي لحقت بالجيش العراقي في الكويت وعلى طول الطريق التي انسحب منها من هذا البلد. كان واضحا منذ تلك الفترة أن هذه الميليشيات تسعى إلى ضرب كلّ مؤسسات الدولة العراقية، أو على الأصح ما بقي من هذه المؤسسات، مع تركيز على دوائر السجلات العراقية والأحوال الشخصية. رحل جورج بوش الإبن وجاء باراك أوباما. ما لم يتغيّر هو جهل الأميركي بالعراق من جهة والنتائج التي يمكن أن تترتّب على قرارات في غاية الخطورة على رأسها مشاركة ايران في الحرب على العراق ثم حلّ الجيش العراقي من جهة أخرى... ماذا يريد الأميركيون في نهاية المطاف؟ الثابت إلى الآن أنّهم يرفضون الاستماع لأحد. لو كانوا يريدون الاستماع إلى نصائح مفيدة، لكانوا استمعوا في البداية للرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي تحفّظ عن العملية العسكرية في العراق ودعا إلى التروي قبل الإقدام على مغامرة من هذا النوع. ولكن يبدو أن الأميركيين مستعجلون على الانتهاء من العراق الذي عرفناه. لا يشبه اصرارهم على تفتيت العراق سوى ذلك الإصرار على تفتيت سوريا. في سورياوالعراق، نجد أن السياسة الأميركية لا يمكن أن تؤدي سوى إلى تفتيت البلدين. من يراهن على أن ايران يمكن أن تلعب دوراً بناءً في العراق، إنّما يراهن في واقع الحال على اشعال حروب داخلية ذات طابع مذهبي. معروف كيف بدأت هذه الحروب وليس معروفاً كيف يمكن أن تنتهي، باستثناء أنّ الأكراد أمّنوا إلى الآن سلامة اقليمهم ولم يعد ما يمنعهم من الإعلان عن قيام دولتهم المستقلّة في حال توافرت الظروف المناسبة والملائمة إقليمياً ودولياً. ومن يراهن على ترك النظام السوري يذبح شعبه، إنّما يراهن على أنّ هذا النظام سيتكفّل بتدمير كلّ قرية ومدينة سورية بمساعدة ايران وبدعم من روسيا. هل صدفة أن يكون أوباما جلس يتفرّج على السوريين بعد استخدام النظام للسلاح الكيميائي بشكل علني وواضح وقتل المئات في يوم واحد قبل نحو عشرة أشهر؟ تبدو الرغبة في الهدم والتدمير، في سورياوالعراق، الثابت الوحيد في السياسة الأميركية التي تكتفي حالياً بإبداء الرغبة في التخلّص من رئيس الوزراء نوري المالكي الساعي إلى ولاية ثالثة. من المفيد دعوة العراقيين إلى التخلّص من المالكي وتشكيل «حكومة جامعة». لكنّ التمنّيات وحدها لا تكفي. الخوف كلّ الخوف أن يكون تشكيل الحكومة الجامعة الذي نصح به وزير الخارجية الأميركي في اثناء وجوده في بغداد لم يعد يقدّم أو يؤخّر. مثل هذه الخطوة تجاوزها الزمن والأحداث في ضوء ما يجري على أرض الواقع. ربّما كان الشيء الوحيد الذي بقي من السياسة الأميركية هو تلك الأفكار التي تضمّنها المقال لذي نشره نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في العام في صحيفة «نيويورك تايمز». لم يكن بايدن وقتذاك في موقع نائب الرئيس بعد. دعا المقال، الذي وقعّه بايدن ولسلي غلب الذي كان مديرا ل«مجلس العلاقات الخارجية»، وهو مؤسسة غير حكومية محترمة، إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم، شيعي وسنّي وكردي. من الواضح أنّ لا خيارات أخرى الآن في العراق، خصوصا أنّ ايران قد لا تكون معارضة للتقسيم في حال كان الإقليم الشيعي الغنيّ بالنفط تحت وصايتها المباشرة...