انكسارات اللهفة المذبوحة يعرض الكاتب المغربي شعيب حليفي في روايته «تراب الوتد» لتاريخ التفتت المغربي، في هيئة إسفار أدبي يعبر الطوفان فوق حنايا القلق. ترشح الصور بالتذكارات المغمورة بالشوق والحنين إلى زمن نقي متحرر من غواية الحضارات الملتبسة، متشفعاً بلغة ثرية تحفز التذكر وتترجم المشاعر والأحاسيس المجروحة لشعب عاجز مولع بالتقليد والنسخ. يتوزع النص على ثلاث روايات متلاحمة، تعجن أزمنتها الثلاثة عهد الانكسار، في محاولة لجبل تراب الوتد. كل رواية تتفرق وفق حكايات ممسرحة وفصول مستقلة، تخفف ثقل التداعيات والفيض الفكري العميق، وتفسح المجال لإعادة تدوير الحدث المستغرق في تشذر الروح. أما إلحاق المسودات بالنص الإبداعي فيكفل ترقيع الثغر لبناء عالم متجدد. تنعي الرواية الأولى، «مساء الشوق»، التلاشي البطيء لألوان الضحك المتبقية، لجيل مطهم بالألم والرعب والتغريب، تحيا حكاياته بنسغ الشوق المرتبك. بداية بالمدرّس محمد بحري الذي يناور بحثاً عن تجسير الجنون بالوهم، مكثفاً بصوته صدى الأسى المضفور في مسالكه وتبدياته. يتلازم يقينه الحدسي بموته عقب إضراب الأيام الثلاثة. أما ابنته نعيمة فتجسد ذعر الفضيحة، حين تدفع نحو العهر وتعاطي المخدر منذ يفاعتها. ثم تموت بدون ذاكرة بعد سبع سنوات من الاحتضار، بعدما تجولت كمرآة لعكس البشاعة. في المقابل يمثل الكاتب المرتزق إدريس، ظلاًّ مكثفا لوجوه ممتسخة، مما يجعل الروائي مصطفى مدادا سريع الزوال، فهو يركن إلى طبيعته البدوية التي لا تهادن الموت، متخذا من العبث سلاحا يحارب به جوار الغضب والعنف والمغامرة. فيخوض مع نعيمة رحلة ناقصة يتممها الغضب، بوصفه اشتعالا كامنا في روح الفتاة المسافرة عبر خطايا المدنسين. تتخذ أيقونة الأضحية الدينية بعداً رمزيا مجروحا، يترجم بألم المكابدة ضد الصمت والهذيان، تحت راية الخطاب والفعل الإسمنتي. فالعبد الأسود في حلم محمد هو اليأس، الذي دفع فقيه العزلة الأبدية لالتهام أسرته وعبده إبان المجاعة، التي هي قحط الأخلاق ويباب النفوس، وتناسل الريبة والبهتان. في رؤى نعيمة يستحيل إلى هلع التضحية بأخيها الوحيد إسماعيل، الذي سمّاه الكاتب كمين الانهيار الموعود. إذ تجول صغيرا في شوارع الشر المهيأة بشكل يحفز المراهقين المتمردين على المضي بعيدا، في تخطيط غير معلن، لتصنيع جيل متشابه تسهل مراقبته، لأن المختلف متعب كما أفتى فقهاء الحضارة. أما رحلة الشتاء والصيف فتغدو مسيرة الوجع المؤكد لوالد محمد وأقرانه من المذلولين والمهانين. أفسح الانفتاح الكبير على الحياة والتذكر، أمام قصص العشق كي تطل برأسها من خلال نعيمة وخميس، العاشقين اللذين فرا إثر فضيحتهما داخل القرية المعزولة ووهبا نفسيهما لندب وجوه الفرح المخذولة. ثم تقدم بهما الولع إلى حدود التوهج، فتعددت رحلاتهما بحثا عن زمن مفصول عن كل الأزمنة. وبينما كانا يحفران معا في تأوهات الأزمنة كان «الكلب» حاضرا. اغتصب نعيمة وجزّ شعرها وحرقه، فخطفت المقص وقتلت نفسها. أما خميس فضرب حتى الإغماء، وهدهد حقده حتى انتقم؛ فاغتصب القائد وقتله بعدما دهمه في بيته، ثم سلم نفسه للقصاص. ترصد الرواية الثانية، «مجازفات البيزنطي»، متاهة التخييل، وتغربل قانون المصادفة وفق احتمالات الفيض التداخلي للعيساوي، الذي هو ذخيرة الأرواح. أما المجازفات فتكشف نفاق الدولة وجور القوانين وهزليتها. ويترك للأبطال حق دخول «مقهى بيزنطة» للبحث عن ربط وجودهم بيقين الحياة، في تناوب فادح على سرد الحكايات. ففي الأولى يغدو العيساوي ظلا مسائيا للحيرة، بعدما روّض نفسه حتى صار قلبه مقبرة لدفن كل شيء. ثم اختار أن يدفع بأزمانه نحو الأمام ملتفا على صوت سيدة مقعدة هزت الأرض بأغانيها، فكان راهبا في مجلس انتصاراتها. في الثانية يحلم احمد العباوي أن يصبح فخا وان يتحول إلى مخبر، ليكتشف عبث الحياة برمتها، فيتحول الى روائي يختلق تاريخا كاملا لمرحلة سقطت في براثن الكذب. أما الحكاية الثالثة فهي الاستثناء العظيم الذي يتيح معايشة الهوة والمتاهة. في حكاية مواربة، يحرق مصطفى شواهده ليكون نادلا في «مقهى بيزنطة» الذي تجلس فيه أرواحه، محترفا العنف والانتقام من ذاته. كلامه مواصلة لمرافعات كان قد افتتحها منذ سنوات طويلة ضد الزمن المغربي الذي لا ينصف إلا نادرا. يكثر الكاتب من البدايات ليجعل دلالاتها المتقطعة وقود حكاية تائهة مفقودة، تتخفى في طيات جمل معترضة، تتجمع لتهب العيساوي بهاء الأيقونة الصوفية، وصفة الشاهد الذي يرنو إلى ضحايا مذبحة قديمة، حالما بطفل سيعيد إلى السلالة حياتها السرية المهربة من تلك المذبحة، ثم يتحول إلى شاعر ضليل، انطلاقاته نحو هوية أكثر تجذرا في العشق والإصرار. تسجل الرواية الثالثة مشاركة حليفي أبطاله على خطى «أنا أيضا تخمينات مهملة»، وفيها يعترف ببيع الأوهام بذريعة التأسيس لأفكار جديدة تبرر الوجود، وتثأر من الكتابة في إطار الدفع بالأوهام إلى مأزق حقيقي مع النوع الأدبي وأفق التلقي.