قارب المؤتمر الوطني التاسع لحزب التقدم والاشتراكية، موضوع اليسار والتنوع الثقافي، وما تفرع عنه من أسئلة بدت في كثير من الأحيان حارقة، خاصة في ظل التحديات الكبرى التي فرضتها المقتضيات الإيجابية التي وردت في دستور 2011، والتي ذهبت في اتجاه مأسسة الحريات خاصة تلك المتعلقة بالحريات الثقافية. وفي تقديمه التأطيري لهذه الجلسة، أثار الزميل الحسين الشعبي، المنسق الوطني لقطاع الثقافة والاتصال التابع للحزب، ورئيس تحرير بيان اليوم، ثلاثة مداخل لولوج الموضوع، أولها أن المسألة الثقافية عموما لم يثبت أن كانت محط اهتمام أحزاب اليمين في المغرب، حيث كان مناضلو وأطر وقياديو اليسار المغربي ومنظماته الديمقراطية وحملة الفكر المتنور هم من رفعوا لواء الانتصار للمسألة الثقافية، إلا أن إشكالية التنوع الثقافي، مع ذلك، لم تنل حظها من التحليل والمقاربة لدى معظم مكونات اليسار إلا في السنين الأخيرة ما عدا الأدبيات والاجتهادات الهائلة التي راكمها حزب التقدم والاشتراكية منذ عهد الحزب الشيوعي المغربي إلى الآن، ولعل وثائق مؤتمراته تشهد على ذلك، وما الكتاب الأبيض الشهير إلا دلالة تاريخية شاهدة على المرحلة، حيث كان مجرد ذكر اللغة والثقافة والهوية الأمازيغية يثير الأحقاد والضغائن ضد رفاقنا سواء من طرف التيارات السلفية الوطنية أو من طرف ذوي النزعات الموغلة في القومية العربية، أو من قبل بعض الرموز المحسوبة على السلطات والمخزن التقليدي، بدعوى المساس بالوحدة الوطنية.. واليوم أثبت التاريخ صواب رأي حزبنا، يقول المتدخل، ولم يعد أحد يهددنا بالمزايدات على الوحدة الوطنية بعد أن تبنى القصر أطروحة تثمين التنوع الثقافي منذ خطاب الراحل الحسن الثاني المتعلق بتدريس اللغة الأمازيغية في المدارس الوطنية، والاعتراف الرسمي بأن الأمازيغية قضية شعب بأكمله كما جاء في الظهير المحدث للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. المدخل الثاني مدخل دستوري، بحيث أن دستور 2011 على عكس كل دساتير المغرب الحديث، خصص للشأن الثقافي أحيازا هامة في عدة أسيقة، الديباجة، الإقرار بالهوية المغربية متعددة الروافد، ترسيم اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية، دعم التنمية الثقافية، الإنصاف على مستوى الإعلام العمومي، الجهوية الموسعة، المغرب الكبير، المجلس الوطني للغات والثقافات.. وغير ذلك من المتون التي نصت صراحة على إيلاء العناية للمسألة الثقافية والإقرار بالتنوع. ومن ثمة أصبح اليوم المرجع الدستوري ملزما لكل مكونات الأمة في التعاطي مع هذا الموضوع خصوصا على صعيد تخطيط السياسات العمومية. المدخل الثالث هو ما يرتبط بالجانب الحقوقي الكوني الذي تقره جميع العهود والمواثيق الأممية والدولية ومنظمة اليونسكو والتي تتعلق بمسألة حماية التنوع الثقافي. وخلال أطوار هذه الندوة التي أجمع مثقفات ومثقفو حزب التقدم والاشتراكية على ضرورة الإسراع بتنزيل الدستور خاصة في جانبه المرتبط بالقوانين التنظيمية ذات الصلة بترسيم الأمازيغية وبالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، أكد اسماعيل العلوى رئيس مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية، في السياق ذاته، على أن الشعب المغربي والأحزاب التقدمية والعمل الذي قامت به الحركة الجمعوية، مكنت المغرب، في خضم الحراك العربي، من القيام بعملية مأسسة الحريات وأساسا تلك الحرية التي تعنى بالتنوع الثقافي التي أصبحت حقا دستوريا لا يمكن التراجع عنه، لكنه حذر في الوقت ذاته، من فرضية العودة إلى الوراء، مما يقتضي، بحسب اسماعيل العلوي، توخي الحيطة والحذر، من كل ردة محتملة، بهدف الحفاظ على المكتسبات التي ناضل من أجلها الشعب المغربي. ومن بين أهم المعيقات التي تواجه المجتمع المدني، حسب المتحدث، ضعف التعريف بمفهوم الثقافة بمعناها العام، مشيرا إلى أن المغرب لم ينتقل بعد إلى مجتمع المعرفة، الذي يتعين الوصول إليه، وتحسر المحاضر على مرور ستين سنة بعد الاستقلال دون التمكن من توفر المناخ الملائم الذي يضمن مجتمع معرفي واسع يمكن المواطنات والموطنين من المساهمة القوية في إغناء المجتمع على المستوى الثقافي بصفة عامة. ودعا رئيس مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية، إلى ضرورة الاجتهاد من أجل التغلب على هذه المعيقات، وذلك عن طريق إغناء وصيانة الحقوق الدستورية.. من جانب آخر، أفاد اسماعيل العلوي أن التنوع الثقافي واللغوي، يستوجب عدم التقوقع على الذات، على اعتبار أن التقوقع المميت حول الذات يشكل خطرا حقيقيا، يتهدد تنوعنا الثقافي، مؤكدا على ضرروة الانفتاح على الآخرين والتمييز بين ما هو إيجابي لديهم وفرزه عما هو سلبي وعما لا يليق بنا، من خلال إعمال الروح النقدية للاستفادة من إشراقات الآخرين. وفاجأ اسماعيل العلوي الحضور بإثارته لمفارقة أن اليسار لم يكن دائما مناصرا للتنوع الثقافي بالرغم من أنه كان يرفع شعار الحرية والديمقراطية.. مستدلا بوقائع تاريخية في مرحلة ما بين القرن التاسع عشر وبداية الحرب العالمية الأولى، خصوصا في روسيا قبل الثورة، والاتحاد السوفياتي فيما بعد، وفرنسا (الجمهورية الثالثة) حيث كان اليسار من أشد مناهضي التنوع الثقافي إلى درجة أنه في وقت ما منع في التحدث في المدارس الفرنسية باللغات المحلية.. من ثمة خلص المتحدث إلى أن الانتصار لقيم التنوع الثقافي وحماية هذا التنوع لا بد أن يكون مرتبطا جدليا بمفهوم الحرية.. حيث أن باب الحرية هو المدخل الأساس للإبداع الإنساني وللثقافة الكونية. من جانبه، نبه عضو اللجنة المركزية والمخرج المسرحي عبد اللطيف الصافي، إلى غياب إستراتيجية عميقة تسعى إلى وضع الثقافة الحسانية في صلب الشأن الثقافي الوطني، وعدم اختزالها في الصور النمطية، مشيرا إلى أن دستور 2011 ذكر الثقافة الحسانية وربطها بالعربية ليميزها عن الحسانية الموريتانية. وأكد الصافي على أن التوظيف السياسي للثقافة الحسانية بشكل نمطي من طرف البوليساريو، يقدمها على أساس أنها عقيدة فاشية ترفض الآخر، في إطار توظيف سياسي يروم استقطاب الشباب ونشر التوجه السياسي الانفصالي. وانتقد عبد اللطيف الصافي، طريقة تعامل الإعلام العمومي الوطني مع الثقافة الحسانية، حيث يقدمها في صورة مهزومة، على حد تعبيره، مشيرا إلى أن المقاربة المطروحة اليوم، للتعاطي مع الثقافة الحسانية، هي مقاربة جد محدودة لا تساير التطور الذي يعرفه العالم، وغير قادرة على إحداث التغيير المنشود. وخلص ابن واد نون إلى ضرورة بلورة استراتيجية وطنية بمساهمة كل الفاعليين في الحقل الثقافي بشكل عام داعيا حزبه ومناضليه إلى إيلاء الاهتمام اللائق بنصرة الثقافة الحسانية ووضعها في صلب البرامج الثقافية للحزب وكذا الاعتناء بها على مستوى قطاع وزارة الثقافة الذي يدبره الحزب. وبما أن الثقافة الحاسانية بمفهومها الشامل، تضم كل تمظهرات المجتمع الحساني وتجلياته إذ يجمع كل أصناف التعبير الشعرية والغنائية، أكد القيادي في حزب التقدم والاشتراكية وعضو الكوركاس، أحمد سالم لطافي، أن القبائل الحسانية هي قبائل عربية من بني معقل تواجدت في مصر منذ عهد الفاطميين، وجاءوا إلى المغرب في عهد المرينيين، وهم قبائل اندمجت في المجتمع المغربي من شماله إلى جنوبه. وأوضح أحمد سالم لطافي، أن الشعر الحساني الصحراوي يميل في كثير من خصائصه إلى الزجل العربي خاصة المعروف في دول كالسعودية والبحرين، مشيرا إلى أن الآداب الحسانية تمظهرت في عمومها في صورتين تتمثل في الكتاب والشعراء والأدباء الذين اهتموا وكتبوا بالحسانية والصورة الثانية تكمن في الأبحاث الأكاديمية والجامعية التي تمت حول الثقافة واللغة الحسانية. وقال الباحث المنحدر من الصحراء المغربية «إن الحسانية لم تكن تحظى باهتمام يذكر خلال فترة الاستعمار الإسباني، ولم تكن هناك أية دراسة أكاديمية حول موضوع الثقافة الحسانية، لكن بعد الاستقلال وعودة الأقاليم الجنوبية إلى الوطن ظهرت دراسات وأبحاث ونوقشت أطروحات جامعية في مختلف الجامعات المغربية». لكن على الرغم من كل ذلك، يضيف أحمد سالم لطافي، فإن الشعر الحساني الفصيح لم تتم دراسته إلا خلال الفترات الأخيرة، وهي الدراسات، على كل حال، التي أكدت على أن القبائل الحسانية هي قبائل عربية هم عرب البيضان وأن الثقافة الحسانية هي ثقافة عربية بيضانية. لكن في المقابل، أكد المتدخل على حقيقة تاريخية انطروبولوجية تتمثل في التمازج الذي حصل بين الثقافة الحسانية والثقافة الأمازيغية، واستدل على ذلك بمجموعة من التعبيرات اللغوية التي تدل على أن هناك تلاقيا بين الأمازيغية والحسانية ويظهر ذلك بشكل واضح في أسماء الأمكنة وفي بعض المعاني والتراكيب اللغوية. ووقف محمد أمين الصبيحي وزير الثقافية والقيادي في حزب التقدم والاشتراكية، على أن الحديث عن التنوع القافي في المغرب، يستدعي استحضار الإرث الحضاري المشترك لدى كل المغاربة بكل روافدهم، مشيرا إلى أن خصوصية المغرب تكمن في قدرته على تدبير هذا الغنى وهذا التنوع الثقافي الذي يعطي في نهاية المطاف ثقافة مواطنة موحدة. وأوضح الصبيحي، على أن هذه الخصوصية ظلت تميز المغرب منذ عقود طويلة باستثناء فترة ما بعد الاستقلال حيث كان هناك توجه لهيمنة لغوية عربية بدعوة القومية والحفاظ على الوحدة الوطنية، لكن الدستور الجديد أقر بشكل واضح بالحقوق الثقافية والتنوع الثقافي. وبارتباط مع التنوع الثقافي، أكد أمين الصبيحي مسألة الحق في الولوج إلى الثقافة من خلال توفير البنية التحتية الثقافية وملاءمة العرض الثقافي مع هذه البنية مشيرا إلى الدور الذي يضطلع به حزب التقدم والاشتراكية في هذا المجال من خلال تدبيره لوزارة الثقافة. ومعلوم أن محمد أمين الصبيحي يقوم بعمل جبار ومهم باعتباره المشرف على قطاع الثقافة ببلادنا، من خلال مجموعة من المبادرات والبرامج الرامية إلى بلورة سياسة عمومية في المجال الثقافي تراعي التنوع الثقافي وذلك عبر آليات تسمح لكل التعبيرات الثقافية والفنية في تلقي دعم الدولة، مشيرا إلى أن الحق يبقى مجرد مبدأ إذا لم تكن هناك إجراءات عملية تساهم في ترسيخ هذا الحق. من بين هذه الإجراءات التي يتعين الإسهام في بلورتها، ذكر أمين الصبيحي بالمجلس الوطني للغات الذي قال إنه يتعين على حزب التقدم والاشتراكية كحزب يساري، أن يدفع في اتجاه إخراجه إلى حيز الوجود، بالإضافة إلى ضرروة الاشتغال على القانون التنظيمي المتعلق بترسيم الأمازيغية كلغة وطنية، وتفعيل أكاديمية محمد السادس للغة العربية. من جانبه، دعا الحسين الشعبي، في ختام هذه الندوة، إلى ضرورة إعمال مقاربة التنوع الثقافي، بارتباط مع كل مكونات المجتمع المغربي، على أساس أن تكون هذه المقاربة عرضانية تروم النهوض وحماية التنوع الثقافي المغربي، لأن مسألة حماية التنوع الثقافي ليست مرتبطة فقط بالسياسات العمومية ومخططات الدولة ولكنها أصبحت في العالم بأسره قضية حقوقية كونية تتعلق بالدينامية المجتمعية، فهي بالنسبة لنا في المغرب، يقول الحسين الشعبي، قضية أمة وهوية شعب. وذكر الحسين الشعبي بالمسار الذي خطاه حزب التقدم والاشتراكية في سبيل الاعتراف بالتنوع الثقافي خاصة الثقافة واللغة الأمازيغية والتي راكم الحزب بشأنها أدبيات وأطروحات على المستوى المعرفي والفكري وأيضا على المستوى السياسي والنضالي إلى جانب مكونات الحركة الثقافية الأمازيغية، ومنها الدور الترافعي الطلائعي الذي قام به قياديو الحزب ومناضلوه سواء على مستوى البرلمان أو في وسط الحكومات المتعاقبة منذ 1998 وفي الحقل السياسي والمدني المغربي بصفة عامة.