من أهم القضايا التي تثير نقاشا مستفيضا داخل حزب التقدم والاشتراكية منذ مشاركته في الحكومة التي يقودها العدالة والتنمية، قضية التحالفات، إذ اختلف الرفيقات والرفاق حول هذه المشاركة، وطغت مسألة التحالفات من جديد على النقاشات الداخلية بين المناضلين، كما أفرزت رأيا وسط النخبة السياسية المغربية وكذا باقي الفاعلين السياسيين، يحرمون على حزب التقدم والاشتراكية تحالفه مع العدالة والتنمية ومشاركته في الحكومة الحالية. وبالعودة إلى الآراء الخارجية والتي تعني باقي الفاعلين والمحللين، فإنني أجزم أن لا أحد له الحق في إملاء الرأي على حزب التقدم والاشتراكية، والتدخل في قضاياه الداخلية وقراراته التي اتسمت عبر تاريخه الطويل بالجرأة والمسؤولية والتحليل العميق والعلمي للمواقف، ومراعاة المراحل التاريخية، والمبادئ السامية الكونية التي شكلت زاد الحزب في قراءاته ومواقفه عبر التاريخ، بدءا من استقبال المغفور له محمد الخامس لممثلين عن قيادة الحزب، وما شكل من صدمة لبعض رموز الحركة الوطنية وبعض موكوناتها، حتى التنصيص في وثائق الحزب على المكونات الدينية للشعب المغربي، وما خلفه من ردود فعل ناكرة للموقف من قبل حتى بعض المنتمين، وصولا إلى الموقف من إضراب دجنبر1990 وإمكانية المشاركة في الحكومة في عرضها الأول، ثم الموقف من حرب الخليج ودستور 1996، كلها مواقف وغيرها شكلت في حينها صدمة لمختلف الفاعلين السياسيين والمحللين عبر تاريخ الحزب، بالرغم مما أثبتته من صواب الموقف وسداد الرأي بعدما أكدت الأحداث صوابها وجديتها، ناهيك عن كون المواقف تلك كانت نتاج مدرسة فكرية وسياسية متفردة ضمنت لنفسها استقلالية تامة بعيدا عن كل أشكال التدخل والإملاء للمواقف التي كانت سمة بارزة ومؤسسة لسلوكات العديد من الأحزاب السياسية. أما داخليا فإن من حقنا جميعا كمناضلين في صفوف حزب التقدم والاشتراكية مناقشة قضية «التحالفات» وغيرها وإبداء الرأي مهما كانت درجات الاختلاف بيننا كمناضلين، لكن في إطار مرجعيتنا الإيديولوجية، ومراعاة لوحدة حزبنا وقبل كل ذلك استحضارا لمصلحة الوطن والشعب، وهنا ينبغي أن نعود ولو قليلا إلى تاريخ تحالفات الحزب التي تشكلت في مرحلة سابقة مع مكونات اليسار المغربي أساسا، ثم الانفتاح على حزب الاستقلال في مرحلة تالية من خلال الكتلة الديمقراطية، فالعمل مع ما نسميه في وثائق الحزب بالأحزاب الديمقراطية ومكونات الصف الحداثي، وهنا بالذات أقصد المشاركة في حكومة اليوسفي الأولى والثانية وما بعدها بمعية أحزاب كانت تسمى سابقا بالأحزاب الإدارية بل تعدى الأمر ذلك حتى التحالف داخل الحكومة مع «جبهة القوى الديمقراطية» التي خرجت من رحم الحزب عشية انتخابات 1997 بإيعاز من إدريس البصري رجل الحسن الثاني القوي وزير الداخلية آنذاك، ألم يكن هذا الخروج خيانة؟ أما كان التحالف مع الخائن خيانة كبرى للمناضلين؟ أم أن هناك ما يبرر ذلك التحالف آنذاك وليس هناك من مبررات تجيز تحالف حزب التقدم والاشتراكية اليوم مع العدالة والتنمية؟ تؤكد كل وثائق الحزب اليوم والأمس على أن دائرة تحالفه الأولى تتشكل من اليسار المغربي، وهنا سأعود فقط إلى الربيع العربي وما بعده، حيث يعلم الجميع أن مكونات اليسار المغربي كانت مشتتة الرأي حول الربيع العربي والمشاركة في حركة عشرين فبراير من جهة، كما أن اليسار عموما قدم مقترحاته كل على حدة فيما يتعلق بمشروع تعديل الدستور كما اختلفت هذه الفسيفساء أيضا حول الدستور المعدل نفسه، وهو ما جعل بعضا منها يرفض المشاركة في انتخابات نونبر 2011. وهنا وجب السؤال طبعا، من يتحمل مسؤولية عدم تنسيق مكونات اليسار المغربي فيما بينها من أجل اتخاذ موقف موحد من المشاركة في حركة 20 فبراير، ثم تقديم مقترحات حول المشروع المعدل للدستور ثم الموقف من الدستور المعروض على الشعب في فاتح يوليوز 2011 فالمشاركة من عدمها في الانتخابات الموالية، كلها محطات متقاربة أثبتت أن وضعية الشتات التي يعيشها اليسار المغربي لن تنتج موقفا موحدا من كل هذه المحطات، لتباين الرأي والموقف بين هذه المكونات واعتقاد كل طرف بصواب أطروحاته ومشاريعه ورؤاه، فمن وجهة نظري، بالرغم من أنني شاركت في مسيرات وبعض وقفات 20 فبراير خاصة بسلا، لقد أدت الحركة ما كان مطلوبا منها ولازال طبعا، لأن تقدمها أكثر كان يمكن أن يؤدي بالمغرب إلى ما وصلت إليه بعض البلدان العربية والمجاورة من فوضى خاصة مع وجود إسلام سياسي يرفض العمل من داخل المؤسسات بل ويكفرها، وهو الأكثر عدة وعددا، وتربص جهات خارجية باستقرار المغرب، ولنحمد الله على ما وصلنا إليه بأقل الخسائر الممكنة، ولن تقف مطالبنا كشباب وكشعب أيضا عند هذا الحد، بقدر ما نرغب في المزيد من الإصلاحات السياسية وكذا التنزيل السليم والديمقراطي للدستور ومحاربة الفساد وإرساء دعائم مجتمع حداثي وديمقراطي يسوده القانون. ما أرغب الوصول إليه من خلال هذه الملاحظات هو أن اليسار المغربي يعيش شتاتا غير مسبوق وتباينا في المواقف في مختلف المحطات سالفة الذكر، فمن سيتحالف مع من أولا؟ ثم هناك معطى أساسي هو التحالف من داخل 20 فبراير مع العدل والإحسان، أحد أوجه الإسلام السياسي الرافضة للعمل من داخل المؤسسات وهو عامل يزيد في تعميق الهوة بين مختلف مكونات اليسار المغربي. فهل يمكن التحالف مع العدل والإحسان من داخل 20 فبراير، ولا ينبغي التحالف مع العدالة والتنمية في تحالف حكومي؟ ثم حول ماذا يمكن التحالف مع العدل والإحسان، حول أي أجندة؟ لا أجد أي جواب مقنع بكل أسف. من داخل اليسار لا أجد من يمكن أن يتحالف مع من وحول ماذا خاصة بعد الربيع العربي، ومن هي الجهة التي عليها المبادرة لعقد تحالف يساري كبير بالمغرب حول أرضية سياسية مشتركة مع الحفاظ على شخصية واستقلالية كل حزب على حدة ودون وصاية أي حزب على آخر أو على الآخرين. بعد ظهور نتائج انتخابات 25 نونبر 2011 وفوز حزب العدالة والتنمية بالمركز الأول، شرع هذا الأخير في مشاوراته لتشكيل الحكومة، وهنا لابد من التذكير أنه كان على مكونات الكتلة الديمقراطية على الأقل أن تقوم بمشاورات بينها من أجل اتخاذ موقف موحد من المشاركة من عدمها في حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية، وهو ما لم يقع مع كامل الأسف، وهنا وجب السؤال، هل كان على حزب التقدم والاشتراكية أن ينتظر مواقف حلفائه؟ لا.لا .لا أقبل أن أتخذ موقفا، أو أن يتخذ حزبي موقفا بعد حليفيه، لقد اتخذ الحزب قراره، بجرأة ومسؤولية - بالرغم من أني لم أصوت في اللجنة المركزية لصالح المشاركة، بل كنت مع أقلية الأقلية التي اختارت الامتناع عن التصويت، وأعترف هنا أني لم أتحلى بالشجاعة الكافية لاتخاذ موقف في تلك اللحظة- كما كان قرار الحزب موقفا شجاعا ليس له سابق في تاريخ المغرب السياسي الحديث والمعاصر، له ما يبرره كما له ما ينقضه، إلا أنه- وهذا ما ينبغي أن يسجل لحزب التقدم والاشتراكية- موقف فتح ورشا فكريا وسياسيا على مختلف مكونات المشهد السياسي المغربي واليسار خصوصا التفاعل معه بالإيجاب، في ظل المستجدات التي تعرفها الساحة السياسية العربية والمغربية من تحولات، حيث يؤكد المفكر العربي صادق جلال العظم أن معظم مكونات الإسلام السياسي اليوم تنازلت عن مقولة «الإسلام هو الحل» كما سبق للمفكر العربي الكبير الآخر وأب الشيوعيين العرب كريم مروة أن أجاز التحالف مع الإسلام السياسي في وقت سابق، وإلا فسنجد أنفسنا مضطرين للعودة إلى مقراتنا والانغلاق على ذواتنا لتناول الوجبات الدسمة للكتب القديمة ذات الأوراق الصفراء، والعودة لمناقشة الكلخوزات والسفخوزات، فكم من الوقت سيلزمنا للوصول لمناقشة «البرسترويكا». إن الخلاصة التي يمكن استخلاصها من كل ما سبق أن اليسار يعيش وضعية شتات يصعب معها إيجاد أرضية مشتركة للتحالف بين كل مكوناته، بل عدم توفر حتى النوايا التوحيدية باستثناء بعض المبادرات التي كان الحزب سباقا لها في أكثر من مناسبة، كما أن المدخل الرئيسي لتحقق هذا الأمر يكمن أساسا في الاعتراف المتبادل بين كل الأحزاب اليسارية بإمكانية تحالفها مع بعضها في إطار رؤية مشتركة حول حد أدنى من المواقف والمبادئ واعترافها مجتمعة بنسبية الحقيقة بل ونسبية ما تقدمه من تحليل للواقع المغربي أساسا، مع تسليم كل طرف باستقلالية وشخصية الباقين. دون رغبة في الهيمنة. وأمام هذا الوضع يبقى اختيار حزب التقدم والاشتراكية في حصر تحالفاته في اليسار يحد من إمكانيات اشتغاله في المشهد السياسي، ويقزم دوره الدستوري في تأطير الشعب المغربي وممارسة المسؤولية في تدبير الشأن العام على المستوى المحلي والوطني، وهو ما يفرض عليه الانفتاح على مكونات أخرى، يسميها في أدبياته مكونات الصف الديمقراطي والحداثي وهي غير مسماة، يمكن أن نفهمها من خلال التجارب التي مر منها الحزب، من خلال مشاركته في الحكومة، وقبلها من خلال الكتلة الديمقراطية، بالانفتاح في مرحلة سابقة على حزب الاستقلال ثم باقي ما كان يسمى بالأحزاب الإدارية باستثناء الاتحاد الدستوري، وكذا مشاركة الأصالة والمعاصرة، والخلاصة من كل ما سبق تكمن في استثناء حزب العدالة والتنمية من تحالفات الحزب، فلماذا هذا الاستثناء؟ لقد شارك الحزب مع الأحزاب الإدارية في حكومة التناوب وفي حكومة جطو وكذا حكومة عباس الفاسي، بل شارك أيضا إلى جانب الأصالة والمعاصرة الذي كان ممثلا في حكومة عباس الفاسي، فلماذا هذا الاستثناء؟ الأكيد أننا في حزب التقدم والاشتراكية نختلف مذهبيا مع حزب العدالة والتنمية ومع الإسلام السياسي عموما، لكن وكما يقال فقد جرت مياه تحت الجسر، تتمثل أساسا في الربيع العربي ونتائجه المختلفة على جل بلدان العالم العربي وظهور القوة الحقيقية للإسلام السياسي، من جهة، بالإضافة إلى ما سبق الإشارة له في تنازل العديد من مكونات هذا اللاعب عن مقولة «الإسلام هو الحل» والقبول بالمشاركة السياسية وأسسها والاعتراف بالمؤسسات والعمل من داخلها، وهو ما يبيح في نظري التحالف معها في إطار برنامج حكومي، تحت ضغط المصلحة العامة والظرفية التي أنتجت هذا التحالف، وهنا وجب الإشارة فقط إلى أن الحزب الذي لا يستحضر مصلحة الوطن في ممارسته لا يستحق أن يكون حزبا ولا أن ينال أصوات الناخبين والمواطنين وثقتهم وتمثيلهم. إلا أن الذي لا يجد له تفسيرا هو التحالف مع الإسلام السياسي الذي لا يقبل بالعمل من داخل المؤسسات بل لا يعترف بها ويقوم بتكفيرها ويصنفها «بدعة» ويكفر أغلب المواطنين المغاربة الذي لا ينخرطون في مشروعه السياسي والدعوي، أخيرا وجب التنبيه إلى أن العمل مع الإسلام السياسي والعدالة والتنمية قد يزيل هذه الهالة التي اكتسبها عبر تاريخه ولعبه دور المظلومية، وهو ما يكسبه مزيدا من التعاطف الشعبي الذي ينبغي كسره من أجل كشف زيف المشروع المجتمعي والذي يقترحه وتعرية حقيقة محدودية أطروحاته الاقتصادية والاجتماعية. وجبت الإشارة إلى أن أكثر ما يعقد مهمة الحزب في تحالفه مع العدالة والتنمية في هذه المرحلة هو اصطفاف حليفيه التقليديين الإتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال في المعارضة، وهو ما يطرح تساؤلا مهما، لماذا المعارضة ومع من؟ إن المعارضة اليوم تبنى على شيء أساسي، يعلمه القاصي والداني، وهو محاولة إسقاط العدالة والتنمية، بكل الوسائل الممكنة وحتى الأساليب الغير مباحة، حتى ولو كان ذلك على حساب المصالح العليا للوطن والمواطن، وهو الأمر الذي ينطوي على عدة مخاطر من أهمها، ما قد يترتب عن ذلك من مزيد من الإحباط لدى فئات واسعة من المواطنين المغاربة وخاصة الشباب منهم، وهو ما يؤدي إلى مزيد من العزوف السياسي وإفراغ العملية السياسية من محتواها، وتجريدها من فاعليتها، وضرب ما تبقى من مقومات الاستقرار، بل والدفع بمزيد من الشباب نحو التطرف، ولعل أفواج الشباب المغربي المشارك في العمليات القتالية في سوريا وليبيا، لدليل على تغلغل الفكر المتطرف وسط فئات واسعة من الشباب المغربي، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن كشف زيف خطاب الإسلام السياسي لا يتم بمحاربته بل باحتوائه وكشف مكامن خلله ومحدودية ما يقدمه من حلول اقتصادية واجتماعية، كما أعتقد أن ليس من واجبي كمناضل في صفوف حزب التقدم والاشتراكية ولا كيساري أن أحارب الإسلام السياسي، لأن ذلك من مسؤوليات من قام بدعمه في مراحل سابقة للحد من قوة اليسار. أخيرا وجب التنبيه إلى أن الحزب شارك في حكومة يقودها العدالة والتنمية لمدة سنتين ونصف، وبالتالي وجب الانتقال إلى مرحلة تقييم هذه المشاركة على جميع المستويات من أجل أن يقدم الحزب مزيدا من التضحية في خدمة الصالح العام، ولتجاوز نقائص هذه المشاركة وكذا لكشف نقائص وحقيقة وزيف أطروحات الإسلام السياسي، من جهة، والقطع مع مظاهر التحكم في المشهد السياسي المغربي، لأن المغرب الذي نريد يبنى بأحزاب سياسية قوية ومستقلة القرار .