من المؤكد أن تظاهرات فاتح ماي وتجمعات المركزيات النقابية واستعراضاتها تعبر كل سنة عن الرصيد النضالي والتنظيمي للطبقة العاملة المغربية وتميز مسارها قياسا لتجارب عربية وافريقية أخرى، وهذا المكتسب يستحق لوحده التثمين والاعتزاز والصيانة والتطوير، ولكن، فضلا عن ذلك، ففاتح ماي لهذا العام كشف أيضا عن ضعف منسوب التنقيب وسط الشغيلة وعن كثرة النقابات وتشتت المشهد النقابي الوطني، وبالتالي عن حاجتنا جميعا إلى العمل الجدي الحقيقي من أجل توسيع قاعدة التنقيب وسط العاملات والعمال وكافة المأجورين والموظفين، وخصوصا الشباب والنساء، وأيضا من أجل تمتين النقابات وتقوية مصداقيتها، أي أن تتوفر بلادنا والطبقة العاملة على ... نقابات قوية. من جهة ثانية، لا يمكن أن نغفل أن فاتح ماي لهذه السنة شهد إعلان الحكومة عن قرارات تتعلق بالرفع من الأجور الدنيا في الوظيفة العمومية، ورفع الحد الأدنى للأجر في القطاع الخاص، بالإضافة إلى إعلانها عن الشروع في إعداد دراسة من أجل توسيع التغطية الصحية لتشمل والدي المؤمنين، كما أنها سبق أن أقرت التعويض عن فقدان الشغل لفائدة الأجراء، ومبادرات اجتماعية أخرى، وعبرت عن التزامها بعقد لقاءات الحوار الاجتماعي بصفة منتظمة، ومواصلة الحوار على الصعيد القطاعي مع اعتبار خصوصيات كل قطاع، والتشاور حول الملفات الاجتماعية الكبرى لبلورة حلول اجتماعية بشأنها. كل هذه المبادرات تأتي لتجسد تفاعلا ايجابيا مع مطالب وانشغالات الطبقة العاملة والموظفين، وهي قطعا ليست كافية، لكنه أيضا لا يمكن إنكار أهميتها، ومن ثم، من الضروري تثمينها أولا، والانطلاق منها لتفعيل إصلاحات اجتماعية أخرى من شأنها النهوض بأوضاع الفئات الشعبية والمتوسطة من شعبنا، أي اعتبار هذه القرارات الايجابية تأسيسا عمليا لدينامية شاملة تقوم على مأسسة الحوار الاجتماعي وانتظاميته، وعلى ضرورة تحقيق أشياء ملموسة على المستوى الاجتماعي تكون ذات تأثير واضح على حياة ومستقبل شعبنا، وبالتالي على اقتناع كافة الأطراف بأن الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي لا يتحققان إلا ضمن استقرار اجتماعي حقيقي يكون مبنيا على تحسن ظروف عيش الفئات الفقيرة والمتوسطة وعلى امتلاكها كرامتها. والآن، وبعد أن انتهت احتفالات وتظاهرات عيد العمال، يجدر الانكباب على ورش الإصلاحات الإستراتيجية الكبرى»المقاصة، التقاعد، الضرائب»، وهذا يفرض وعي جميع الفاعلين، بما في ذلك النقابات بدقة المرحلة واستعجالية هذه الإصلاحات، وحاجة الكل إلى امتلاك ما يكفي من الواقعية وبعد النظر والمسؤولية لكي تخرج هذه الإصلاحات في أقرب وقت. إنها إذن معركة حقيقية، وهي معركة مع الذات، ومعركة من أجل مستقبل البلاد ومصلحتها، ولابد أن ينخرط الجميع في مسلسل كسب رهانها، كما لابد أيضا من تجنب جعل الفقراء وحدهم يدفعون كلفة هذه الإصلاحات ... في الإشكالية الاجتماعية، وخصوصا عندما تكون الظرفيات صعبة وغير مساعدة ماليا واقتصاديا، فإن الحاجة تكون ملحة للابتعاد عن المزايدات و عن كل الديماغوجيات، ذلك أن العقل والمسؤولية هما وحدهما القادران على تجاوز المآزق، وعلى ربح المعركة.