تسافر بنا مسرحية «بين وبين» لفرقة نحن نلعب للفنون، نحو عوالم مختلفة وفضاءات مضطربة موزعة مابين السخرية القاتمة واللاذعة وحكايات حزينة موثقة على لسان ثلاث شخصيات رئيسية بهيمية، رجلان من الجنوب وامرأة من الشمال طبعا الشمال الأوربي وليس الجنوبي. شخصيات تبحث عن جذورها وكينونتها المفتقدة وأحلامها الهاربة، فجأة تحط رحالها وخيامها في أمكنة مختلفة باحثة عن فضاءات حميمية وحرة للاستقرار والتعبير والتحدث عن دواخلها الصدئة والمريضة والمقرفة أحيانا. (ضفة جنوبية مقهورة ومضطهدة نحو ضفة شمالية تبدو متسامحة وعادلة ومحتضنة). في البداية، نجد أنفسنا أمام فضاء فرجوي ربما كازينو أو حانة أو غرفة في ضواحي باريس، هيأ للرقص والغناء مادام يتواجد على يمين ويسار الخشبة موسيقيان بهيميان أيضا، واحد يتأبط قيثارته ليخرج منها ألحانا غربية والثاني يتسمر أمام آلة إيقاع متكونة من دوائر عدة وأحجام مختلفة يحاول أن يمنحها إيقاعات محلية مغربية. تظهر فجأة امرأة جميلة وفاتنة (هاجر الشركي)، تبدو مغنية محترفة في شكلها وصوتها ورقصاتها المختلفة وألوان ملابسها المتعددة،. الأهم أن غناءها يدون لمضامين الهجرة وما تحمله من حمولات ثقافية وفكرية ودينية.. ربما يصبح الغناء دلالة قوية عن ذاكرة بعيدة وشهادة حية عن نصف قرن من الهجرات والاضطهاد في اتجاه الضفاف الشمالية المتسمة بالعدل والمساواة (ربما ضفاف الجنة المفتقدة والحوريات الرائعات). هو مجرد سؤال: هل حقا بلاد برنار (Bernard) موطن مثالي وجنة حالمة؟ ربما المسرحية تعكس وجهة نظر أخرى مفادها أن الضفة الأخرى هي مجرد أحلام تكسرت فوق أدرع وأجسام مواطني الضفة الجنوبية. أحيانا، وجدنا صعوبة في تتبع مسار الأحداث وفهم تشعباتها الغامضة وفك جزئياتها المنفلتة، مما حذا بنا الوقوف عند حياة الشخصيات وأفعالها حيث جمعها القدر والقضاء والتأمتها الصدف الجغرافية (المغرب وفرنسا) لتتعايش مؤقتا في رقعة ملغومة بالروامز الدينية (مسلمان ويهودية) والروامز الفكرية (محافظة وحداثة) والروامز التاريخية (استبداد وحرية) والروامز الاجتماعية (مقدسات وعلمانية)، ما يبرر ذلك في أحد المشاهد الساخرة المتعلقة بعملية الختان، فالرجل الجنوبي وزوجته اليهودية يتوحدان عقائديا عبر عملية الختان (يحضر الختان في الديانة الإسلامية واليهودية ويغيب في الديانة المسيحية). أما شخصية حمودة الموزعة ما بين موطن الولادة في الضفة الجنوبية وموطن الإقامة المؤقتة في الضفة الشمالية تبقى الشخصية الوحيدة التي نستوعب تناقضاتها منذ البداية حتى البوح بمعاناته وعقده، ولا يرجو إلا لقاء أمه وحضنها والتحدث إليها. عجيب هو أمر هذا الرجل الجنوبي الذي يظل يردد اسم أمه طوال حياته حتى وهو ذاهب نحو لحده وسفره النهائي. المسرحية لقاء فجائي ما بين ثلاث شخصيات متشظية، ومتهدمة، وموسيقيين يحاولان ضبط إيقاع العالم وإعادة تنظيمه وفق مرجعيات الشخصيات إذ نجد تركيبا موسيقيا دراميا يجمع بين موسيقى الروك وموسيقى مغربية ذات إيقاعات مختلفة. فجزء كبير من العرض المسرحي إن لم نقل كله يتم حكيه والتعبير عنه بمزج موسيقي غربي وشرقي، وهذا يظهر جليا في مشهد الختان، فشخصية البدوي التي أداها بامتياز الممثل عادل اباتراب إذ تحول إلى شيخ من شيوخ العيطة (ربما قلد شخصية الفنان حجيب) أقرب إلى أسلوب الكيتش أو السخرية المبالغ فيها (فالرجل المغربي أين ما حل وارتحل وهاجر وغامر نحو الضفاف الأخرى كانت باريس أو نيويورك أو طوكيو، فإنه يحتمي بقرص موسيقي لفن العيطة أو فن الكناوي). ربما هذا يحيلنا إلى الانتماء الثقافي والموسيقى جزء من هذا الانتماء ومكمل لهويتنا الثقافية حيث يلجأ للموسيقى والرقص والإيقاع لدفئ العواطف وطرد الأحزان وملئ قسمات الوجه ببعض الفرح والتفاؤل والضحك. يبقى عرض مسرحية «بين وبين»، أو على الأصح ضفاف بلا مرافئ، تطرح مع سبق الإصرار والترصد، موضوعات ذات حمولات سياسية وفكرية وثقافية ودينية ضمن قوالب ساخرة ممزوجة بالموسيقى والحكي واللعب مؤكدة على أن شطئان الضفتين تتقاسمهما المرجعيات الحضارية والفكرية ولابد من مسارات إنسانية متقابلة ومتكافئة تنقل الضفتين نحو موانئ أكثر طمأنينة وأصدق إنسانية وأمثن ثقافة وأشجع فكرا وحرية. * ناقد مسرحي عرض مسرحية «بين وبين» قدم يوم 10 يناير 2014 بقاعة باحنيني بوزارة الثقافة بالرباط في إطار مرحلة معاينة العروض المرشحة للاستفادة من دعم الإنتاج برسم الموسم 2013/2014 . دراماتولجيا وإخراج : محمود الشاهيدي سينوغرافيا : طارق الربح تشخيص : عادل ابا تراب – مالك أخميس – هاجر الشركي موسيقى : المهدي بوبيكا – مصطفى خليفي الاتصال : أميمة بنغوات نص : طارق الربح – محمود الشاهيدي – علاء حميوي