على درب اقتفاء آثار ما تزال حية لماض مشترك يتميز المغرب بتمازج ثقافة شعبه الأمازيغية العربية الإسلامية واليهودية وعمقه التاريخي والحضاري.. وعلى هذا المستوى بات الدستور الجديد لسنة 2011 يعد ترجمة لهذا الزخم.. في هذا الإطار، وبمبادرة من وكالة تنمية أقاليم الجهة الشرقية وبتعاون مع دار النشر مفترق الطرق، تم مساء الخميس الماضي بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية تقديم مؤلف «ذاكرة يهود المغرب الشرقي» الذي يعد استحضارا معززا بالصور وواقعيا للتراث الثقافي اليهودي لشرق المغرب، وقد تميز هذا اللقاء بحضور مكثف لأفراد الطائفة اليهودية المغربية سواء القاطنة بعدد من مدن المغرب أو ببلدان المهجر، وحضور مستشار جلالة الملك أندري أزولاي والسفير المتجول بيير ديغو، ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان ادريس اليازمي إلى جانب رئيس الطائفة اليهودية بالرباط دافيد طوليدانو وعدد من المثقفين والأكاديميين والباحثين. الكتاب الذي صدر باللغة الفرنسية وتضمن شهادات لأفراد من الطائفة اليهودية وبعض المثقفين وبعض من بعض كتابات لرموز مناصرين لإحياء وبعث الروح في التاريخ الخاص بالطائفة اليهودية كجزء من تاريخ المغرب، من مثل الراحل شمعون ليفي، يعد استحضارا للتراث الثقافي والروحي ليهود الجهة الشرقية والواقع المعيشي اليومي ولأماكن العبادة الخاصة بالطائفة اليهودية بل ولكل تلك المعالم والأماكن والأضرحة التي جمعت اليهود والمسلمين بتراب مناطق ومدن وجدة، دبدو فكيك والناظور، حيث بصم التعايش حياة اجتماعية لأجيال تعاقبت على مدى قرون وتقاسمت في انسجام قيما إنسانية ومسارا ولحظات تاريخ المغرب بعيدا عن التنازع أو الصراع. وأكد أندري أزولاي مستشار جلالة الملك محمد السادس في كلمة بالمناسبة، أن هذا الكتاب يعد نبراسا لذلك الاختيار الذي خطاه المغرب والذي بالرغم من السياق الذي يحيط به إقليميا وعالميا والذي يطبعه التراجع والنكوص والانقسام، فإنه اختار الصمود وعدم الإقصاء أو تجاهل جزء من تاريخه الغني بكل لحظاته وفتراته وبكل مكوناته، داعيا إلى توجيه تحية جماعية كبيرة لمغرب اختار التعدد وإبراز مقومات مختلف مكوناته . وأبرز في هذا الصدد أن فرادة المغرب وتميزه وطلائعيته بالمنطقة المغاربية والعربية على هذا المستوى كرسه الدستور المغربي الذي نص على المكون اليهودي والثقافة اليهودية، معتبرا أن كتاب «ذاكرة اليهود بالمنطقة الشرقية سار على ذات النهج، خاصة وأنه يشكل مبادرة لم تصدر عن طائفة بل جاءت من طرف وكالة وطنية والتي بالرغم من أنها جهوية فقد قررت تناول جزء من تاريخ المغرب عبر جزء من مكوناته ممثلا في يهود المنطقة الشرقية . واعتبر أزولاي، أن الأمر يعد بمثابة إعادة تملك المغاربة لمراحل و حقب من تاريخهم العميق، مثمنا في هذا الصدد الدور الذي لعبته الجامعة المغربية في مجال البحث التاريخي وإثارة دور اليهود كمكون من مكونات الشعب المغربي، والدور الذي يقوم به المجتمع المدني في إحياء تاريخ اليهود في المغرب كمكون شرعي . ومن جهته أكد جامع بيضا مدير مؤسسة أرشيف المغرب في عرض قدمه بالمناسبة، على النهج الذي اختاره المغرب والذي اختار في دستوره الجديد التنصيص ولأول مرة على المكون اليهودي كجزء من الهوية الوطنية إلى جانب كل من الثقافات الأمازيغية والعربية والإسلامية والأندلسية، مشيرا بدوره إلى ما اضطلعت به الجامعة المغربية من دور على المستوى الأكاديمي في البحث في تاريخ المغرب في الجزء الخاص باليهود المغاربة. وأشار إلى بعض من المراحل التاريخية للمغرب، مبرزا أن حضور اليهود بالمغرب يعود إلى أكثر من ألفي سنة، وبالرغم من الانعكاسات التي كان لبعض الأحداث التي عرفها المغرب والتي دفعت بالعديد من اليهود إلى الهجرة، فإن ارتباطهم ببلدهم المغرب بقي راسخا وتترجمه بشكل كبير المقولة التي كان يتم ترديها إبان سنوات الاستقلال» الدين لله والوطن للجميع»، وما أكد عليه المغفور له جلالة الملك محمد الخامس خلال دعمه للطائفة اليهودية بالقول»المواطنون اليهود لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات كجميع المواطنين المغاربة «. وذكر في هذا الصدد بالرسالة الملكية أثناء حفل افتتاح الكنسية اليهودية «صلاة الفاسيين» بفاس، بعد ترميمها، إذ أكد جلالته على الاهتمام الخاص الذي يوليه لحماية التراث الثقافي والروحي للطائفة اليهودية المغربية الأصيلة التي ظلت تحظى بالاعتبار والاحترام، مشيرا أن هذه الخصوصية العبرية التي تشكل اليوم٬ وكما كرس ذلك الدستور الجديد للمملكة٬ أحد الروافد العريقة للهوية الوطنية، داعيا إلى ترميم كافة المعابد اليهودية في مختلف المدن المغربية الأخرى لتصبح ٬ ليس فقط مكانا للعبادة٬ وإنما أيضا فضاء للحوار الثقافي ولإحياء القيم الحضارية للمغرب. كما أشار في هذا الصدد إلى المبادرات التي قام بها سيمون ليفي في النهوض والحفاظ على الموروث الثقافي المغربي،وبالأخص المكون الثقافي اليهودي المغربي، ونضاله بذلك في إظهار التعدد والتنوع الموروث الثقافي المغربي، مبرزا أن هذا الغنى التعددي للمغرب والاعتراف والتقدير الذي يحظى به المكون اليهودي، تجلى بشكل كبير خلال الحضور المتميز أثناء وفاة الأديب والكاتب الكبير عمران إدمون المالح، حيث كان الانتصار للقيم الإنسانية يعتلي كل الانتماءات وشوهد حضور رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران والمناضلة الفلسطينية ليلى شهيد إلى جانب زعماء أحزاب سياسية ومختلف شرائح المجتمع المغربي. أما مدير وكالة تنمية أقاليم الجهة الشرقية،محمد مباركي، فقد اعتبر أن كتاب ذاكرة اليهود بالجهة الشرقية»،ليس كتابا تاريخيا بل كتاب يحكي فقط المعيش اليومي لطائفة اليهود بمناطق الجهة الشرقية، فهو يندرج في إطار العمل من أجل تحقيق التنمية بهذه الجهة، وهو نتاج نقاش طويل وعميق مع الراحل شمعون ليفي الذي عمل على إحياء ذاكرة المغرب متعدد الثقافات عبر إحداثه للمتحف اليهودي بالدار البيضاء، حيث أن هذا الكتاب يريد أن يبرز ذلك الموروث الثقافي والهوياتي الغني لمنطقة أطلق جلاله الملك محمد السادس مجموعة من الأوراش لتنميتها. ومن جهته، لاحظ عبد القادر الرتناني، مدير دار النشر «مفترق الطرق» أن الكتاب، فضلا عن المعطيات التاريخية التي يتضمنها، يدعو القارئ لاكتشاف خصوصيات الذاكرة اليهودية في المغرب الشرقي» مضيفا أن هذا العمل «المنجز بشغف»، يخرج عن التحليل التاريخي لينصب حول المعيش اليومي لليهود في المغرب الشرقي. وأشار الى أن هذا المؤلف سيترجم إلى الانجليزية والعربية والأمازيغية في أفق «أن يصبح سفيرا متجولا للثقافة العبرية في المغرب الشرقي»، مبرزا أن هذا الإصدار ينسجم مع محتوى الرسالة التي وجهها جلالة الملك بمناسبة افتتاح كنيس اليهود «صلاة الفاسيين»، والتي دعا فيها جلالته، إلى تجديد وتأهيل التراث اليهودي. وبدوره تناول الكلمة رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ادريس اليازمي، حيث اعتبر هذا الإصدار دليلا على انطلاق «مسلسل الاستعادة متعددة الأبعاد لتاريخنا، والتي توجد بفضل الإرادة الملكية وتعبئة القوى الحية للمجتمع». يبوقال إن المجلس يواكب هذه الحركية التي تندرج ضمن منطق الرقي بحقوق الإنسان وتكريس القيم الكونية المتمثلة في التعدد والمساواة.