الوفاء لذاكرة الحزب: وفاء لأخلاق وتضحيات الأجيال السابقة والتزام ومصداقية ومسؤولية تجاه الأجيال اللاحقة لا تكاد تخلو رفوف المكتبات بالديمقراطيات العريقة من إصدارات لقياديين سياسيين، إما في سدة الحكم أو خارجه، يدونون فيها أهم المحطات السياسية وعصارة التجارب التي ساهمت في صقل مسارهم السياسي، أو لسياسيين متقاعدين يختصرون فيها أهم الدروس والعبر من التجارب السياسية التي خاضوها. ولا يكاد يفتتح موسم سياسي في الدول الديمقراطية، وخصوصا مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية الكبرى، إلا ووسائل الإعلام تعلن عن صدور كتاب لقيادي ما أو أكثر من مختلف التيارات والانتماءات السياسية. وهو ما يسمح بزخم في الرؤى والتصورات وتعدد المقاربات والقراءات للحظة السياسية المعاشة والمعاصرة. مما يتيح قراءة آنية للحظة السياسية. إن هذا التقليد المترسخ في الثقافة السياسية يمنح رؤية واضحة للقارئ وللمتتبع في قراءته للتاريخ السياسي لبلاده في أدق مراحله، كما يمنح للمهتم مادة دسمة وملموسة وشهادات قيمة حول مسار رجال الدولة وتأثيرهم في لحظات معينة على الحياة السياسية للبلاد. وهذا التقليد ينمو في حضن قاعدة عريضة وواسعة من التيارات الفكرية والمدارس السياسية المختلفة والمتجدرة عبر الأحقاب والأزمنة، وفي تطور طبيعي ومساير للأحداث التاريخية ولتطور المجتمعات. لكن من نواقص التواصل السياسي ببلادنا أنه نادرا ما نصادف قياديين سياسيين يبادرون إلى إصدار سيرتهم الذاتية أو إلى نشر مذكرات حول مسارهم السياسي أو التركيز على لحظة تاريخية معينة عبر الكتابة والتواصل مع المواطنين. وتكاد تختفي في خزاناتنا ومكتباتنا قراءات حية آنية لصانعي القرار للحظة السياسية. ونحن في حزب التقدم والاشتراكية لا نشكل استثناءً عن القاعدة في صحراء الإصدارات السياسية ببلادنا بأقلام قياديين سياسيين. وهو ما يعرقل قراءة القارئ والمتتبع والمهتم بتاريخ ومسار الحركات السياسية عموما، ولحزب التقدم والاشتراكية على وجه الخصوص، بسبب شح في المعلومات من جهة وضعف ثقافة الأرشيف والتدوين وكذلك تقصير النخب السياسية ذاتها، والتي غالبا ما تعيش اللحظة السياسية وتداعياتها دون التفكير في هاجس تدوين اللحظة السياسية وترك بصمات ملموسة ومكتوبة تؤرخ لتلك اللحظة السياسية بعيون داخلية، ربما تفاديا منها للسجال والنقاش الذي قد تولده قراءات مختلفة للمشهد السياسي، أو مخافة إحراج النخب لبعضها البعض جراء قراءات متعددة لمراحل حرجة ودقيقة من الحياة السياسية للبلاد. وهو ما لا يفتح الباب للمصارحة وتدقيق الأحداث والمواقف وتوضيح الرؤى وفهم الأحداث في سياقها الآني والقراءة المتعقلة والرزينة لمختلف التيارات التي تفاعلت وتتفاعل داخل الساحة السياسية عموما. والحقيقة أن القراءة المتأنية للشأن الوطني والسياسي والديبلوماسي والطلابي والعمالي والنقابي لا يكتمل إلا بعيون صانعيه، ولا يمكن الحديث أو الكتابة عنه بتجرد واستقامة وموضوعية ووعي باللحظة دون العودة إلى شهادات حية للمساهمين في صنعه وبلورته، حتى المؤرخون المهتمون بسبر أغوار الواقع السياسي ورصد وقائعه يجدون صعوبة في قراءة اللحظة السياسية في غياب شهادات موثقة للفاعلين السياسيين الشاهدين على الحدث. والاحتفال بالذكرى السبعين لميلاد حزب التقدم والاشتراكية يشكل في نظري فرصة مثالية لسبر أغوار ذاكرة الحزب، رغم اعتراف قيادات الحزب وإقرارها بقلة المصادر التي اهتمت بكتابة تاريخ هذا الحزب الوطني العتيد، الذي يعتبر بحق أول من أدخل العمل النقابي للمغرب، وأول قوة سياسية تنطق بالاشتراكية في هذا البلد. فهي بحق مدرسة سياسية تؤرخ لمرحلة من أدق الفترات السياسية ببلادنا. ولمناضلي هذا الحزب ومفكريه جانب من المسؤولية في ورش العناية بالوثائق التاريخية وتصنيفها، وتسهيل قراءتها وتوفيرها بحلة جديدة وبرؤية حديثة وعصرية وبقراءة جذابة للأجيال الصاعدة... وأكاد أجزم إذا قلت أن هذا الورش أهم وأكثر وقعا وتأثيرا من تشييد مقر وطني جديد للحزب. فحزب التقدم والاشتراكية، وهو يحتفل بذكرى تأسيسه السبعين، يحتفل بأجيال متعاقبة من المناضلين تمتد إلى أربعينات القرن الماضي، ظل محافظا على مواقفه ومبادئه وتوجهاته الإيديولوجية كحزب يساري متشبث على الدوام بهويته الإيديولوجية الاشتراكية. فإذا كانت سنة 1974 سنة تأسيس حزب التقدم والاشتراكية، فتاريخ 24 يناير 1943 يمثل تاريخ إقدام النخبة الأولى من المناضلين بإنشاء الحزب الشيوعي المغربي (PCM) ، وكان حينها امتدادا للحزب الشيوعي الفرنسي آنذاك. فتم حظره سنوات 1952 و1959، لينشأ حزب التحرر والاشتراكية سنة 1968 كامتداد للحزب الشيوعي المغربي إلى أن تم حظره من جديد في سنة 1969. إن هذه المراحل التاريخية عايشتها نخبة من المناضلين المؤسسين من الرعيل الأول أمثال ليون سلطان الذي أصبح الكاتب الأول للحزب الشيوعي المغربي بعد الندوة التأسيسية في 14 نونبر 1943 وعبد السلام بورقية، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المغربي وأحد أبرز قادته منذ سنة 1943 إلى جانب أحمد بلماضي والمعطي اليوسفي، ثم علي يعته الذي التحق بسكرتارية الحزب الشيوعي المغربي سنة 1945... بجانب الهادي مسواك الذي أصبح وجها مرموقا في الأوساط الطلابية المغربية بعد دخوله إلى كلية الطب بباريس سنة 1947 وظل عضوا في مكتبه السياسي ينشط في السرية حتى بعد الحظر الذي تعرض له الحزب الشيوعي المغربي سنة 1950 ليصبح مسؤولا في كتابته بالرباط منذ شهر مارس 1951. ومن بين مناضلي الرعيل الأول للحزب المرحوم الرفيق عبد الله المؤقت، أحد المنخرطين الأوائل في الحزب الشيوعي المغربي وعضو لجنته المركزية الثانية الذي غادرنا إلى دار البقاء قبل أسابيع، والذي توج مساره السياسي بإصدار سيرة ذاتية ساهم من خلالها في تدوين مسار الحركة العمالية المغربية والتأريخ لمرحلة من مراحل الحياة السياسية للحزب الشيوعي المغربي ما بين 1946 و1952 مطالبا فيها برد الاعتبار لمجموعة إدريس العلوي: المامون العلوي، عبد الله السلاوي، عبد الحميد بن محمد، إدريس الصبيطي... ومعقبا على ما ورد في كتاب «وراء القطبان» للمرحوم علي يعته. فالنخبة الأولى من المناضلين عاشت مرحلة تميزت بتطور طبقة عاملة مغربية في القطاعات الصناعية والمنجمية والخدماتية. وهي عوامل ذاتية ساهمت بشكل كبير بجانب ظهور نخبة شابة متعلمة، إضافة إلى قوة وحيوية الحركة العمالية العالمية، في تأسيس الحزب الشيوعي المغربي. إن الفكر الاشتراكي أثر بشكل عميق في المجتمع المغربي طوال القرن العشرين، وساهم الحزب الشيوعي وبعده حزب التحرر والاشتراكية ثم حزب التقدم والاشتراكية بجانب القوى الوطنية التقدمية الأخرى في نشره والدفاع عن مبادئه، انطلاقا من الوعي بالمساواة بين بني البشر وإحساسا بالتناقض بين ترف أقلية في مواجهة حرمان أغلبية من المواطنين، وفرضت الاشتراكية رؤية مختلفة لمجتمع أكثر عدلا وإنصافا... نحو بناء مجتمع متكافئ تنعدم فيه الفوارق ويتسع الرخاء بالقضاء فيه على استغلال الإنسان للإنسان بشتى الأشكال المهينة للكرامة الإنسانية. وهذه المثل العليا لم تفقد آنيتها اليوم حتى بعد سقوط حائط برلين... بل ما زالت الاشتراكية والتقدمية والحداثة تغذي شرايين المجتمعات، لأن فكر اليسار لا يزال يمثل أملا ووسيلة للدفاع عن المكتسبات التي تحاول الليبرالية المتوحشة والامبريالية إجهاضها، وما زال يناضل تحت لوائه الآلاف... من أجل إقرار عدالة ضريبية في مواجهة الهدايا الضريبية للأغنياء ومن أجل تنمية قدرات الأفراد من خلال نظام تعليمي عمومي ومدرسة قوية تضمن الحق في التعليم في مواجهة مدرسة بسرعتين... وحق الجميع في نظام صحي قوي، وتعزيز التكافؤ والمساواة في الحقوق بين المرأة والرجل، وتمكين عموم المواطنين من الرعاية الاجتماعية وتقوية نظام الحماية الاجتماعية في مواجهة مخاطر الخوصصة واعتماد سياسة تشغيل إرادية، وتعزيز ميكانيزمات المواطنة الحقة بجعل ديمقراطيتنا أكثر تشاركية والنضال من أجل المساواة ومحاربة العنصرية والإقصاء الاجتماعي والعرقي، وحماية الطبقة العاملة من خلال ضمان اجتماعي قوي ومهني ومحاربة الهشاشة وانعدام أو ضعف الحماية، بجانب اعتماد التنمية المستدامة وضمان حق الأجيال القادمة في التنمية... إن الوفاء لذكرى الرعيل الأول من مناضلي حزب التقدم والاشتراكية، ولمسارهم النضالي يجعلنا حذرين أمام إغواء وإغراءات التمويهات والمنعرجات الإيديولوجية غير المحسوبة العواقب، والتي تحاول اختراق حزبنا بشتى الأشكال... تحت غطاء شعارات غير مضبوطة وفضفاضة قد تؤدي إلى توسيع الانحرافات، لأن فكر اليسار المتشبع بالمطالب المجتمعية العادلة ما زال في عمقه حاضرا معنا ومتواجدا بيننا، وتشكل مثله العليا أهم الثوابت الكبرى التي ينبني عليها المشروع المجتمعي لحزب التقدم والاشتراكية، وريث الحزب الشيوعي. وفي مواجهتها، ما زال يتنافس مشروعان مجتمعيان: الاشتراكي والليبرالي. ولا شئ يوحي بأن الاشتراكية في سعيها لإسعاد الإنسانية قد فقدت من آنيتها أو من راهنيتها... وما الوافد الجديد تحت مظلة الأصولية أو خلط السياسة بالدين إلا موجة عابرة للتعبير عن سخط المجتمع ورفضه للنظام الليبرالي المتوحش... إن الحديث عن الجيل الأول من مناضلي حزبنا خلال النصف الأول من القرن العشرين هو استحضار للتضحيات الجسام التي قدمها قادة كبار لحزبنا ولوطننا، وليعرف مناضلات ومناضلو حزب التقدم والاشتراكية – وخصوصا الشباب منهم – أنهم ينتمون لحزب عريق ضاربة جذوره في أعماق التاريخ السياسي المغربي لما يقارب 70 سنة. وينتمون لحزب متجذر في تاريخ الشعب المغربي، ومن حقهم أن يفتخروا بانتمائهم لهذا الحزب. إن حزب التقدم والاشتراكية حافظ وسيحافظ على مواقفه ومبادئه وتوجهاته الإيديولوجية كحزب يساري متشبت على الدوام بهويته الإيديولوجية الاشتراكية، لصيق بهموم الطبقة الكادحة... وسيظل يدافع على كل هذه القيم، بمناضلاته ومناضليه المتسلحين بالعزيمة والإرادة القوية والأقوياء بنبل الأخلاق السياسية وبصفاء السريرة وثقة المواطنين. لأن الجيل الأول من مناضلي الحزب، وبعدهم جيل عزيز بلال وعبد الكريم بن عبد الله وعلي يعته وعبد السلام بورقية وشمعون ليفي وشعيب الريفي والسي محمد أوبلا وعبد المجيد الدويب... وغيرهم من المناضلين البررة، علمونا في مدرسة حزب التقدم والاشتراكية أن السياسة هي قبل كل شئ أخلاق، والتزام وتضحية ومصداقية ومسؤولية. إن على الجيل الحالي من شباب الحزب أن يستعيد المبادرة لثورة مجتمعية حقيقية هادئة ذات أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية، تستفز الذكاء والإبداع المجتمعي، والذي أكدت الأحداث التي عرفها العالم العربي، وعرفها المغرب في شهر فبراير 2011 راهنيتها وقوتها... بحكم أن المجتمع عرف تحولات عميقة ودائمة ومستمرة وسريعة، وعرف كذلك انزلاقات ومخاطرات مرفوضة. مما يتطلب من جيل الشباب فهم هذه العراقيل وتحليلها وإبداع وسائل سلمية لاجتيازها ومواجهتها دون التنازل عن المبادئ والركوب عليها. وهو أمر يتطلب بدوره التحلي بالاستقلالية في التحليل وتجنب الانحراف عن المسار والمساس بمبادئ الحزب. لأن قوة تراث الحزب ومصداقيته وتراكم نضالاته وإشعاعه عبر تاريخ المغرب تتعزز بتطلعات حزبنا للمستقبل المعتمد على قوة الشباب القوي بتكوينه السياسي في مدرسة نضالية قوية وراسخة وبوحدته داخل دائرة واسعة للتحالف القوي الموسع في قطب يساري قائم على منطلقات حداثية وتقدمية ويحمل هموم الشعب بالتزام ومصداقية ومسؤولية.