بالرغم من بعض نقاط الضوء التي تقدمها مناقشات اللجان البرلمانية المنصبة هذه الأيام حول الميزانيات القطاعية لمختلف الوزارات برسم مشروع قانون المالية المعروض حاليا على المؤسسة التشريعية، فإن المستوى العام لازال، برأي الكثيرين، يفرض بذل مجهود أكبر على صعيد المضامين والأفكار، وأيضا ما يتعلق بأشكال المناقشات وأخلاقيات الحوار. فعلا، وعلى عكس تدخلات الجلسات العامة وجلسات الأسئلة الأسبوعية، فإن أعمال اللجان البرلمانية تمكن المشرعين من مدى زمني أكبر لعرض أفكارهم ومواقفهم، وهذا ما مكن من التعرف على كفاءات حقيقية، وشخصيات برلمانية، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مواقفها، فهي تمتلك بالفعل معارف ومهارات وقدرات لإغناء العمل التشريعي في بلادنا. ومن مسؤولية غرفتي البرلمان اليوم الارتكاز إلى نقاط الضوء هذه، واستثمارها لبلورة وتفعيل دينامية جديدة ترتقي بالعمل البرلماني إلى مستوى أكثر حرفية ونجاعة، وتتيح التأسيس لحوار سياسي حقيقي تحت قبة البرلمان يكون بالفعل حاضنا لانشغالات شعبنا وتطلعات وطننا، ويكون منتجا للأفكار والبرامج والسياسات العمومية. لكن المؤسف أن ما يبقى عالقا في بال المتابعين هو كثير خواء تجسده كائنات انتخابية مسلطة على حقلنا البرلماني والانتخابي، وما تنتجه يوميا من زعيق وصراخ، يكاد يغطي على نقاط الضوء القليلة التي تبرز من داخل المناقشات البرلمانية. صارت لقاءات كثير من اللجان عبارة عن حلبات للعراك وتبادل التقريع والشتائم، أحيانا بين برلمانيين ووزراء، وأحيانا بين البرلمانيين أنفسهم، وبات بعض البرلمانيين «متخصصين» في إنزال الكلام إلى أسفل سافلين، وفي جعل اللجان البرلمانية دائمة التوتر، وأحيانا لا يتاح لها حتى أن تشرع في دراسة جدول أعمالها. وعندما يتحول البرلمان إلى منتج لكل هذا الإسفاف في اللغة والسلوك، فإن ما تنقله وسائل الإعلام لا يخرج عن استعراض تفاصيل ذلك، والتوسع في شرح... التفاهة، وحينها نكون في عمق المثل «ماقدو فيل زدناه فيلة»، لتلف التفاهة أعناق الناس. ليس البرلمان فقط واجهة للخطابة ولاستعراض المواقف الحزبية، أو لتبادل «التقلاز» بين هذا الطرف الحزبي وذاك، وإنما هو أولا سلطة للتشريع ولإصدار القوانين، ثم مراقبة الحكومة ومتابعة السياسات العمومية ونقدها ومواكبة تنفيذها، وأيضا مؤسسة للدفاع عن مصالح البلاد خارج الوطن في المحافل البرلمانية والسياسية، والتقدم في مستوى تجربتنا البرلمانية والديمقراطية يقاس بهذه المؤشرات أولا. لن نرتقي بمنظومتنا البرلمانية من خلال كل هذا التوتر الذي يميز العلاقات بداخله وحواليه، أو من خلال دفعه للاهتمام بالشكليات ومواضيع البوليميك العقيم وتصفية الحسابات الحزبية، وإنما ذلك سيتحقق عندما ينكب الجميع على إبداع الأشكال المناسبة لتمتين حرفية البرلمان والبرلمانيين، ولتقوية النجاعة في الأداء، ولتعزيز الاستقلالية وأيضا الإنتاجية في التشريع والرقابة والديبلوماسية، أي أن نجعل البرلمان المنصة المركزية للحوار السياسي الوطني، وأن نحفظ له رمزيته، ونطور إشعاعه الإعلامي بما يؤهله ليجعل السياسة جاذبة لاهتمام الناس، وأن تستحق انخراط المغربيات والمغاربة في ممارستها.