سيرة عصر ذهبي للفرجة عبد الجبار لوزير، ما الذي يتجمع تحت هذا الإسم؟ و مالذي ينتشر خلف هذه الشهرة التي لازمته لعقود طويلة؟ إنه حفر في أعماق فرح أبهج قلوب المغاربة في وقت أحزنتهم فيه السياسة كثيرا، بقساوتها وحماس مرحلة خاب في واجهة السياسة ففجر نفسه في الفن .. إنه مغامرة نسجت نفسها من خيوط متشابكة لصدف ماكرة وجميلة ومفارقات توترت في قلب سؤال اخترق تاريخا متوثبا، انطلقت بدهشة جامع الفنا وامتدت بعبور من تحت إبط الموت عدة مرات ومواجهة مشنقة الإعدام وإطلاق ثلاث رصاصات بهدوء في رأس خائن بباب جهنم وقنبلة سينما مرحبا، لتجعل منه اختبارا للبطولة في مسرح التاريخ قبل خشبة الفرجة... سيرة عبد الجبار لوزير هي سيرة مدينة.. مراكش التي سمعنا عنها ولم نعد نراها.. هي كذلك سيرة لمة خفيفة، كوكبة مضيئة من الفرح التلقائي والبسيط، تقاطعت فيها أسماء كمحمد بلقاس وعبد السلام الشرايبي والمهدي الأزدي وكبور الركيك والشحيمة... وسيرة جمهور باذخ بنشوة الحياة لم تنل منه بعد كآبة الميولات الظلامية، وقصة أسلوب في تشكيل تحفة اليومي لشعب حالم ومضغوط.. ورغم كل شيء متحمس... إنها سيرة عصر ذهبي للفرجة، قبل أن تتشتت عيون الناس وأهوائهم بين الفضائيات ودعاوى الحزن وأشرطة اليأس والكآبة . عبد الجبار لوزير والضحك بصحبة الملك لم أعد أذكر تفاصيل المناسبة بدقة. لكنها كانت زفاف إحدى الأميرات شقيقات الراحل الملك الحسن الثاني، تجمع عدد من العرسان الجدد من مختلف مناطق المغرب، كانوا مقيمين بالمعمورة، واستدعينا لتقديم حفلات أمامهم، كان معنا بوشعيب البيضاوي والمطرب نعينيعة وأعراب. جاء مبعوث القصر محملا بألبسة العرسان، اسمه على ما أذكر الحاج العربي، فاقتربت منه وطلبت منه ان يبلغ لجلالة الملك تحيات الفرقة وتهانيها ورغبتها في تقديم عرض امام جلالته. يبدو أن الرجل كان وفيا في تبليغ ما طلبناه منه. بعد نهاية مراسيم الزفاف ومغادرة العرسان، طلب منا الحاج العربي عدم مغادرة الرباط، لأن الملك يرغب في اللقاء بنا، استدعينا للقصر بمعية فرقة بوشعيب البيضاوي ونعينيعة، كانت تلك أول مرة نمثل فيها أمام الحسن الثاني كملك بعدما قدمنا امامه عرضا بقصر الباهية رفقة والده الراحل محمد الخامس في اطار فرقة الاطلس. نقلونا إلى مكان تابع للشبيبة والرياضة اسمه «لابيل في» أقمنا به أكثر من شهر. في العرض الأول قدمنا فصل «التلفون» من مسرحية الفاطمي والضاوية وتبعنا بوشعيب البيضاوي ثم نعينيعة، استمتع الملك كثيرا، وضحك ملء قلبه، وقدمنا بعدها «مرض النسيان» و«الدار الكبيرة» عندما تنتهي السهرة نعود الى «لابيل في» حيث الإقامة. وبعدها بيوم أو يومين يدعونا الملك لتقديم عرض آخر أمامه. في تلك الفترة على ما أذكر لعبنا امامه أربع مرات. كانت البداية التي فتحت لنا أبواب القصر على مصراعيه، ومتنت علاقتنا بالمرحوم الحسن الثاني. بحلول الشتاء سافر الملك الى إفران، فأرسل في طلبنا. التحقنا به وقدمنا أمامه عروضا كثيرة بقاعة سينمائية معروفة توجد خارج القصر. كان كلما حلت مناسبة كشعبانة مثلا، أو رغب في الترفيه عن نفسه يستدعينا. من عوائده ان يتحرك كثيرا داخل فضاء العرض. يطوف على مدعويه من أمراء وشخصيات يرحب بهم ويشركهم بهجته. ودائما هناك حجاب يفصلنا عن نساء القصر اللائي يدركن بأصواتهن فقط. عندما ننتهي يلتحق بنا يهنئنا على أدائنا ويمزح قليلا معنا. كان خفيف الدم ببلاغة مراكشية منقطعة النظير. وأكثر من هذا عارفا بشؤون المسرح وبجمالياته. لم يكن الحسن الثاني يستلطف المتملقين. كان يقول جملة شهيرة «أجيني مظلوم لا تجيني ظالم» رددها غير ما مرة وهو يصد الطامعين، ولتنبيههم لعدم استغلال علاقتهم به استغلالا سيئا، اذكر عندما غضب من أحد المغنين الشعبيين الذي بالغ في التوسل إليه فرد عليه بصرامة «انس انني ملك. قدمت عرضك ومنحناك التعويض الذي تستحق ايوا صافي.. بركة!!» ولم يعد يستدعيه للقصر لمدة طويلة. نفس المغني تعرض لموقف مماثل. كان له مشكل مع مطرب مغربي شهير بسبب تأديته لإحدى قطعة. وتطور المشكل الى أن وصل المحكمة فاستغل تواجده قرب الملك واستعطفه للتدخل لصالحه. فرد عليه المرحوم أمام حشد من الفنانين وأنا منهم «سير اعطي للسيد حقه.. فهمت ولا لا ..والا بغيتي تغني، هز ديالك وغنيه». مرة قدمنا إحدى مسرحياتنا أمامه بإفران. كان الملك جد منشرح، استمتع كثيرا بأدائنا عندما انتهينا التقط محمد بلقاس رحمه الله لحظة فرح المرحوم الحسن الثاني فصاح بصوت مرتفع «الله يبارك في عمر سيدي» فاتجه نحونا قائلا: «هاني.. آش كاين؟ آش خاصكم؟» فأجابه بلقاس: «نعم آسيدي بغيت تعطي واحد خمسين جلدة لعبد الجبار لوزير» ضحكنا جميعا ومازحنا الملك كعادته. لكن عندما انصرف ثارت ثائرة الحاج العربي أحد مساعديه وانفجر غضبا قائلا: «دايما غادي تبقاو فقراء. حيث قال ليكم الملك آش خاصكم راه تيعني كولو آش بغيتو، آش تتطلبوا. هذي فرصة من الذهب تيتمناوها الناس منين أولين. هاديك راه ابواب السما تفتحت ليكم.. او نتوما تتطلبوا العصا.. هي اللي خاصكم بالمعقول». في الحقيقة كنا نعرف جيدا ان الملك يكره المتسولين.. وأكثر من ذلك كان سخيا في مكافآته. عندما يدعونا للعمل بالقصر نكون متيقنين بأننا سنعود بما يكفينا نحن واسرنا لخمس سنوات. كان له تقدير خاص للفنانين. وهو نفسه كان فنانا. يعزف على عدة آلات موسيقية. وأكثر من ذلك رجل نكتة ويتحدث كمراكشي قح بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من ميل للبسط وتلقائية في التندر والمسرح «وللتقشاب» عندما يستدعينا للعمل بالقصر يترك نهائيا شخصيته كملك ويصبح إنسانا عاديا عنده ضيوف، فلا تسمع منه إلا النكت والضحك والخفة. بعيدا عن السياسة التي لها منطقها الخاص. صحبة الرجل كانت متعة كبيرة. إذا كنا في جولة فنية وبلغنا أن الملك حل بمراكش نوقف الجولة ونعود على الفور الى المدينة الحمراء لأننا متيقنين أنه سيطلبنا. وذلك ما يحدث فعلا. العروض الخاصة به كنا نقدمها أمامه بصالة الكازينو بحي ليفرناج أو بجنان الحصيرة، حيث تقيم الأميرة للافاطمة الزهراء وزوجها مولاي العلي، أو الجنان الكبير أو بالقصر الملكي بالقصبة. الأمير مولاي عبد الله أيضا قدمنا أمامه عروضنا مرارا وتكرارا ، كان يستدعينا بقصره بعين عودة، بفضاء بديع مصاغ بكامله من الخشب. كان يستبقينا عنده خمسة أو ستة أيام بمكافأة مجزية، السهرة تدوم عنده إلى الصباح، ننتهي من التمثيل ونمر الى النكت و»التمشخير».. كان رحمه الله رجل نشاط.. عند توديعه يقول لنا إما «سنلتقي في المساء» أو«استريحوا اليوم حتى أطلبكم». هذه الكلمات هي التي تحدد برنامجنا. في سنة 1964 التحق بفرقة الوفاء عبد السلام الشرايبي والشحيمة وعبد الله العمري، وكلهم من فرقة الامل. اول عمل نقدمه بعد التحاق الشرايبي هو «الدار الكبيرة» وبعدها «مرض النسيان». تدور أحداث هذا العمل في عيادة طبيب أصيب بمرض النسيان. أذكر أننا كنا نقدمها بسينما بلاص بمراكش. وكان من بين مقاطعها حوار تطلب فيه معلمة من بلقاس اخراج أدوات الدرس من المحفظة. فيمد يده الى قفة مملوءة بالخضر ويخرج حبة فجل كبيرة الحجم ويلوح بها قائلا «ها النحو الواضح» ويخرج أخرى ويقول «ها الجغرافيا».. وكان في مقدمة الجمهور أحمد بنسودة وزير الأنباء حينها ومستشار الملك فيما بعد. عندما شاهد بلقاس يخرج «الفجل» من القفة ضحك إلى أقصى حد إلى أن سقط من مقعده. نحن كذلك في التداريب لم نتمكن من ضبط أنفسنا إلا بعد مرور شهور. كانت نوبة الضحك تجتاحنا كلما وصلنا هذا المقطع. في الحقيقة الأشياء الجميلة تأتي بمحض الصدفة. ما وقع في هذه المسرحية هو أن بلقاس جاء الى التداريب بعدما مر من السوق بقصد التبضع. وصل بقفة مملوءة بالخضر والفواكه التي سيذهب بها فيما بعد إلى بيته. وعندما بلغنا المقطع إياه من الحوار، رد بشكل غير منتظر وهو يخرج الفجل من قفته. فتهاوت أجسامنا من فرط الضحك. ومنذ ذلك اليوم أصبح هذا المقطع جزء أساسيا من المسرحية. عندما نصله يتوقف العرض لأزيد من خمسة عشرة دقيقة لأن الجمهور يدخل في حالة من الضحك الجنوني التي تصعب السيطرة عليه. في تلك الأيام كان للناس استعداد كبير للفرح والبهجة والضحك. اليوم هم عكس ذلك أكثر كآبة. ربما يعود هذا الى كثرة القنوات والفضائيات وما تقترحه من تجارب متنوعة في السينما والمسرح حتى أصبح الجمهور متجاوزا لما يقترح عليه محليا. ولولا الدعم الذي تقدمه وزارة الثقافة للفرق لكنا قرأنا الفاتحة على المسرح بالمغرب. فقد احتضر جمهوره وهو ينتظر... فإلى متى سيستمر هذا الصمود؟!