محمد قاوتي ورهانات الاستنبات المسرحي إهداء إلى إكرام القباج، فنانة وزوجة وأما، وقبل وبعد هذا وذاك، رفقة روحي. إلى من دأبَت على تسميتي «سيد الكلمات» ففتحت شهيتي على رحاب الكتابة بعد الطَّوى، وجددت إيماني بالكلمة بعد الكفر، وأقحمتني في رهان أحسن ما يمكن أن أكون فيه عُبَيِّداً للكلمات، تستخدمني كلما أردت استخدامها فتُسَخِّر عُبَيْدَها لما اختارت له من المقامات. إلى ابني ياسين، قرة عيني وصديقي. إلى من أحرجني بالسؤال الملحاح حول المسرح ونصوصي وجعلني أُواجَه بالاحتمال الوجودي: «ماذا سيتبقى مني بعد رحيلي؟» حتى راجعت موقفي من جدوى الأثر وانكببت على إعداد ما تَيَسَّرَ مما قُدِّم من مسرحياتي، للنشر. إليهما أهدي هذه الرحلة في نُسْغِ الشَّاوِيَّه وعبث الدهر، مع كثير من التفاؤل والفرح لما هو آت ولا ريب فيه. يعد محمد قاوتي أحد أبرز صانعي أمجاد مسرح الهواة بالأمس القريب، وفارس من فرسان الكتابة الدرامية الجادة بالمغرب، بما أضاف إلى الخزانة المغربية من إسهامات بوّأته مكانة مرموقة على امتداد أكثر من أربعة عقود من الندى المستمر. لقد خطّ لنفسه مسارا مسرحيا متميزا ظل يتجدد ويغتني برؤية تاريخانية نفاذة ومنهج حداثي لافت. إبداعاته المسرحية المتواصلة، ومنها: «الْگُفَّه» (1975)، «القرامطة يتمرنون، كما رواها خُلِيّْفَه في سوق اشْطَيْبَه» (1976)، «الحلاج يُصلب مرتين» (1978)، «اندحار الأوثان» (1980)، «رحلة مُوحَ» (1981)، «نومانس لاند» (1984)، «الرِّينْگْ» (1990)، «حَبّْ وَتْبَنْ» (1998)... هي بمثابة علامات مضيئة في الذاكرة المسرحية المغربية، وشهادة عما تنجزه الموهبة المسرحية المثقفة، تلك التي يتمتع بها الكاتب المسرحي الرصين محمد قاوتي. كما أن اقتباساته، أو بالأحرى ‹استنباتاته› لنصوص مسرحية عالمية وازنة مثل: «الذي يقول نعم، والذي يقول لا» لبرتولد برشت في مسرحية «العادة» (1976)، و»في انتظار گودو» لصامويل بيكيت في مسرحية «سِيدْنَا قْدَرْ» (1985) التي نحن بصدد تقديمها، و»السيد بونتيلا وتابعه ماتي» لبرتولد برشت في مسرحية «بُوغَابَه» (1989)، خلخلت المفهوم التقليدي للاقتباس من حيث هو طموح لنقل ‹أمين› للنص المقتبس... يضاف إلى كل هذا تفوق، بل ريادة، قاوتي أيضا في كتابة الحكاية الشعبية في أبهى تجلياتها مستعملا اللغة اليومية لجهة الشاوية، أولاد حريز تحديدا، وما تزخر به من صور بلاغية رفيعة. فاستعمال قاوتي للدارجة أو اللهجة العامية ينسجم مع اشتغاله على ‹الاستنبات›؛ إنها لهجة أدبيةliterary dialect مكثفة ومفعمة بالشاعرية ومنحوتة بحذق وعناية (مْغَيّْزَه). حتى قارئ عمود قاوتي في يومية ‹بيان اليوم› والذي يحمل عنوان «مواقف 2010» يدرك مدى فصاحة الرجل وهو يرقى باللهجة العامية إلى طلائع الأدب الرفيع. ينتصر محمد قاوتي للمسرح الذي يفكر ويجدد آليات اشتغاله وينتقد الواقع الحال ويستفز السلبية الموروثة لدى المتلقي المغربي وأفق انتظاره ويحاول أن يأخذ في الحسبان العالم أو يؤثر فيه انطلاقا من استقراء الماضي بعين نحو المستقبل. فالمسرح الذي يفكر هو الذي يحاول جاهدا تطوير الخبرات المنجزة عبر تاريخ المسرح. وفي هذا السياق، يجيب محمد قاوتي - بشكل عملي استثنائي بعيد عن لغة البيانات التي طغت في حقبة الثمانينات - على أسئلة أضحت عالقة في أروقة وزارات الثقافة وبنيات التفكير المنشغلة بالسياسات الثقافية المرتبطة بقطاع المسرح لدى الشرق والغرب، مثل تساؤل مؤسس المسرح الشعبي بفرنسا ومدير مهرجان أڤينيون الشهير جون ڤيلار حول قيمة المسرح: «لا قيمة للمسرح إلا بقدر رفضه للانصياع لعادات الجماهير وأذواقهم، وحاجاتهم وهي في الغالب جماعية. فالمسرحي لا يقوم بدوره، ولا يكون مفيدا للناس إلا إذا زلزل هذا الهوس الجماعي، وكافح هذا الجمود.» (ڤيلار بقلمه، أڤينيون 1991). يعد قاوتي مروجا لفكر حداثي، ومناضلا بأسئلة المسرح المقلقة، وداعياً لحركة مسرحية مغربية/عربية جادة ومواطنة ومتفاعلة مع الوجدان الفرجوي المغربي دون السقوط في الابتذال والتشيئ . بهذا المفهوم، فإن مسرح قاوتي هو مسرح شعبي موجه للنخبة؛ مسرح حامل لرؤية وتواق نحو المصالحة مع الوجدان الفرجوي التراثي دونما السقوط في التقديس والماهوية المطلقة؛ مسرح يبني جسور التواصل بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة... يكتب محمد قاوتي نصوصه لا لكي تقرأ فقط، بل لكي تعرض أيضا. هكذا ارتبطت تجربته في الكتابة بفرق مسرحية وتجارب فنية رائدة رفقة مخرجين مرموقين في مجالات اشتغالهم: نشيخ إبراهيم وفرقة ‹السلام البرنوصي› في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، عبد الواحد عوزري وفرقة ‹مسرح اليوم› الرائدة، وعبد الإله عاجل وفرقتي ‹مسرح الحي› و›مسرح الشمس›... لقد كتب محمد قاوتي نصوصه، مثله في ذلك مثل الكتاب العالميين الكبار، مستحضرا إيواليات صناعة العرض المسرحي المتاحة لديه... لذلك نجده ينتصر لمفهوم أكثر شمولا وعمقا للنص الدرامي والذي يعتبره مشروع عرض مسرحي ليس غير... كما أنه يأبى بطريقة ضمنية صيغ المحاكاة التقليدية التي تقضي باستنساخ الحضور (أي الواقع الحال). هكذا، إذن، ينظر قاوتي إلى النص الدرامي باعتباره عملا في طور الإنجاز أو صيغة غير مكتملة للنص الذي يستوجب تحقيقه على الركح، وهو النص العرض أو نص الفرجة والذي يتميز بدوره بالتعدد بالنظر إلى تعدد صانعيه. وبما أن الدراما بوصفها جنسا تناصية بشكل قطعي، طالما أنها تقترن بوسيط آخر هو الوسيط البصري متمثلا في نص الفرجة الحية، على أن النص المسرحي يشبه السيناريو باعتباره الصيغة المكتوبة للوسيط البصري؛ فهو عمل في طور الإنجاز، مرقوم على الورق، وإن كان مخصصا للخشبة/العرض. وفي هذا السياق تتاح قراءتان: تدرك أولاهما العرض المسرحي على أنه تجسيد مادي للنص الدرامي بما هو حضور مرتبط بالتقليد المتمركز. وهنا يبرز دور المخرج المنفذ لرؤى وعوالم الكاتب المسرحي. فيما تعتبر القراءة الثانية الحدث الفرجوي نصا مستقلا لا يمثل أو يحجب ‹التيلوس› الدرامي، وإنما يبدع بالأحرى نصا آخر. وهذا يستدعي نوعا آخرا من الإخراج يحاور النص ويخترقه في نهاية الأمر ليبرز قراءة موازية. وبما أن محمد قاوتي كاتب مجدد وتجريبي بامتياز فقد تعامل مع مخرجين مجددين بدورهم. من هنا، فقد أفلح محمد قاوتي في اطراح الهيمنة المطلقة للنص الدرامي، وأيضا مغالطة التمثيل المسرحي الخطي لفائدة رؤية تفكيكية تعتمد أساسا على التقويض والهدم ثم إعادة البناء. يبدو هذا جليا في مسرحية «سِيدْنَا قْدَرْ»، كما سنرى لاحقا. والحال أن محمد قاوتي قد جعل من هذا التصور الجمالي موضوعا في حد ذاته في مسرحية «الرِّينْگْ» التي نسجت خيوط علاقة الكاتب بموديله وعوالمه المفترضة. فالنص الأدبي عموما، والمسرحي بخاصة، متخلل ومخترق بكيفية غير مختزلة بواسطة نصوص سابقة. ورغم ذلك، فعندما يكون الكاتب على وعي كلي بلعبة النصية المستضمرة في ممارسته النصية الخاصة يحاورها في أغلب الأحيان لأجل اختراقها. تعكس لعبة الاختلافات انزياح النص وإعادة تملكه لنصوص أخرى في الآن ذاته بكيفية تحيل إلى الذات عبر مصوغات التناص والمسرح داخل المسرح. وهذا ما يميز نص مسرحية «الرِّينْگْ» كحوارية تقعيرية entretien en abyme. يفرض انعكاس نص المسرحية على ذاته إثارة الانتباه إليه بوصفه شبكة للانعكاس الذاتي. يبدو هذا الانعكاس واضحا من خلال الحوار التالي بين الكاتب والرِّيطْ، والذي ازداد انعكاسا من خلال الإحالات على مجموعتين قصصيتين للكاتب المغربي إدريس الخوري: الأولى هي ‹الأيام والليالي› والثانية هي ‹مدينة التراب›. الكاتب: (يتكلم وكأنه يناجي نفسه) «أتخيل أنني أسقط من السماء، مقلوبا على قدمي على رأسي على قدمي على رأسي على قدمي على رأسي... أنهض... أتخيل أن أحدا يتحدّث إلي وأنني أتحدّث إليه»(43) الرِّيطْ: (يخاطب الزِّيطْ بنبرة تقريرية محايدة) نفس الجمل التي أتم بها حديثه مع موديله، مباشرة قبل أن أسأله عمن يكون ويجيبني «أنا الذي بلا ضفاف» أنَا الذي «مَا يْگَدّْ عْلِيَّ غِيرْ الله»(67) (الرِّينْگْ، 2010، ص. 29) فبسبب إحالته التناصية إلى بعض المتن القصصية للكاتب المغربي إدريس الخوري والمذيلة في خاتمة الكتاب يستدعي نص «الرِّينْگ» الانتباه إلى الشبكة المعقدة التي تشكل ملتقى تقاطع التناص... كما أن العنوان الفرعي الذي قدمت به المسرحية سنة 1990 «خمس جولات مع إدريس الخوري» يوحي بنوعية اشتغال قاوتي على كتابات الخوري، اشتغال ينأى عن تركيب شذرات من هنا وهناك لصالح حوار أدبي يذهب إلى حد اختراق النصوص... فعندما يحدث أن يكون فعل الكتابة هو موضوع المسرحية، فإن هاته المسرحية، من ثم، تنجز تمسرحا مضاعفا في إطار صيرورة غير متناهية، مستشرفة بذلك انعكاسا ذاتيا بواسطة إحالة الوسيط (التمثيل الذاتي) إلى ذاته باعتباره موضوعا. وفي هذا المقام، تقلب مرآة التمثيل رأسا على عقب ليعكس الفن ذاته أكثر من عكس حضور إمبريقي. فلا شيء يبدو في مسرحية «الرِّينْگ» أنه ينفلت من قبضة التمثيل طالما أن هذا الأخير ممثل بذاته من خلال معانات الكاتب مع موديله. وفي ذات السياق، وبمناسبة تقديم مسرحية «نومانس لاند» في مؤتمر ليشبونة للفيدرالية الدولية للبحث المسرحي يوم 14 يوليوز 2009 بمركز الدراسات المسرحية التابع لجامعة ليشبونة، شدد محمد قاوتي على أنه لكتابة نص مسرحي مكثف حول تجربة الاعتقال السياسي في مغرب السبعينيات والثمانينيات المنشطر بين الرغبة في البوح من جهة والرقابة الذاتية والممنهجة من جهة أخرى، كان يتعين المرور عبر بوابة التكثيف الشعري والبعد الرمزي الذي يستشرف رحابة المقامات الصوفية في عمقها الروحاني وقدرتها على الانفلات من إيواليات التسنين المباشر. فبدون استشراف هذا البعد الرمزي لم يكن ميسراًًً لمحمد قاوتي أن يكتب مسرحية حول تجربة الاعتقال التعسفي في ظل بنية التفكير التي كانت تتوزع المغرب السياسي والثقافي أنداك؛ وأن يُسمع صوته في بلده المغرب من خلال مسرحية مفصلية وسابقة لما سيعرف لاحقا بأدب السجون، أو ‹كتابة الأسر› حسب تعبير الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، أو أدب سنوات الرصاص... دلالة قرار اختيار التكثيف الرمزي عند محمد قاوتي والشعريات الصوفية في «نومانس لاند»، هو بمثابة سفر فني ومعرفي في ذات الوقت، للخروج من مأزق العُزلة المضروبة على المسرح الذي يفكر، في قمة عطاء مسرح الهواة بمغرب السبعينيات... عُزلة لها طُعم الحصار من حيث هو رقابة خفية تمارس على الإبداع الحر على عدة مستويات. والحال أن تلاحق فعل الانزياح الرمزي مع تتابع السنين سيمكن محمد قاوتي من تجسير لافت بين المغرب العميق والثقافة العالمة... لقد قاده هذا الاختيار إلى ارتياد آفاق المصالحة مع الوجدان الفرجوي الشعبي في أبهى تمظهراته؛ فأضحى بهذا الصنيع مستنبتا فريدا ومتفردا لأعقد نصوص الربرطوار العالمي، ودراماتورجيا شديد الدقة في اشتغاله على اللغة وبناء الشخصيات ومتمكنا من آليات بناء درامي مستشرف لصناعة فرجة مسرحية رفيعة المستوى. معلوم أن النص المسرحي يكون غير مكتمل، مما يستدعي ترجمته إلى وسائط أخرى أثناء عملية تحويله من الورق إلى الركح. فالاقتباس، بهذا المعنى، هو صيغة جدرية لإعادة بناء العمل الدرامي. ليس الاقتباس إيباء لمقولات مثل ‹المؤلف› أو ‹الشرعة› وإنما هو حوار مستمر معها... كيفما كانت إعادة الكتابة... يصبح الكاتب الأصلي موضع تفاوض... كما أن صيرورة الاقتباس تستلزم هامشا أكبر من تناسج ثقافات الفرجة... في هذا السياق، يبرز إسم محمد قاوتي في المشهد المسرحي المغربي من حيث هو مقتبس رائد ومبتكر؛ يقرأ النص في بنيته الأصلية، ويخترقه ويفكك رموزه بتأن، ويفحص إيقاعاته الداخلية، ويدرس مرجعياته الفلسفية والسياسية والجمالية، ويطلع على سياقات تحققه فوق الخشبة، ويدرس ما كتب عنه... و بعد ذلك كله، يبدأ الرحلة ذاتها للبحث عن أنجع السبل لاستنبات روح النص في ثقافة فرجوية مغايرة... إن تصور محمد قاوتي للاقتباس نابع من التجربة المختبرية؛ ويمكن تلخيصه فيما يلي: «إنه يشتغل من منطلقي الإضافة أو الاقتضاب، على شاكلة النحاتين، أو بالإضافة والاقتضاب معا، على شاكلة الكيميائيين.» وهذا ما حدا به لاختيار مسار ثالث «يمكن من إنجاز اقتباس مغترب adaptation distanciée، بالنظر إلى الاقتباس التاريخي المعمول به في غالب الأحيان؛ ومن تحقيق طفرة سيمنطيقية انطلاقا من المتن الذي يتم الاشتغال عليه.» وفي سياق تحليله لصيرورات التحول التي تعتري فعل الاقتباس، ونظرا لرغبته في تحقيق المزيد من الدقة في التعاطي مع ظاهرة نقل النصوص الدرامية إلى لغات وثقافات أخرى وجمهور مختلف نحت قاوتي مفهوما آخر للتعبير عن الاقتباس وهو «الاستنبات» الذي يعرفه كما يلي: «يتمفصل «الاستنبات» في البدء، حول محور «احتواء» النص الإبداعي، والوصول إلى تحويل سيمنطيقي له، بواسطة ‹إعادة إنتاجه›، الشيء الذي يحقق مشروعية هذا الفعل. غير أن ‹إعادة إنتاج› النص، في شروط مختلفة جذريا عن شروط إنتاجه الأصلي، إن ذاتيا أو موضوعيا، تفترض إنجازا قد لا يحقق بالفعل، والحالة هاته، إلا عن طريق تمفصله حول محور ثان، يتكون من متوالية/احتمالات شرطية إجرائية.» تنزاح عملية ‹احتواء النص› عن النظرة التقديسية للنص الأصلي في أفق تفكيكه وتحويل دلالاته إلى سياق مغاير، سياق الاستنبات حيث يبعث من جديد في تربة مختلفة. بهذا التصور اشتغل قاوتي على نص «في انتظار گودو» لصمويل بيكيت، وهو نص أقل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه ينتمي إلى فصيلة ‹السهل الممتنع›. إنه من أعقد وأصعب النصوص البيكيتية رغم أنه يبدو بسيطا، وذلك راجع بالأساس إلى لعبيته وإيقاعاته الآسرة أحيانا والمملة أحيانا أخرى – عن قصد– بفعل تأثير الزمن من خلال فعل الانتظار. تفصح مسرحية «في انتظار گودو» عن بنية من التوقعات ذات ارتباط بأفق بأكمله من الغياب، الذي قد يهون من شأن الإخراج المسرحي. يشكل النسق الظاهر من التعارضات في المسرحية الموضع المحوري في النص. ويتيح ما سبق الانزياح عن بنية الثنائيات التي تتأسس على تعارضات خاصة. لقد ركز محمد قاوتي في استنباته لمسرحية «في انتظار گودو» على إعادة صياغة البنية السيميولوجية المعهودة للثنائيات من خلال مسرحة محبوكة للفعل في اللافعل، والغياب في الحضور، والائتلاف الماهوي في الاختلاف... وقد أتاح بهذه التقابلية المنزاحة عن المألوف تحرير المدلولات وحث المتلقي المغربي على توظيف الرؤية الرمزية Symbolic eye. من هنا، فإن «سِيدْنَا قْدَرْ» تعرض السيميولوجي من حيث هو بنية للتوقعات تتسم فيها العلامات بانفصالها عن مدلول غائب absent signified. معلوم أن مسرحية «في انتظار گودو» قدر لها أن تكتب أكثر من مرة حتى من لدن مؤلفها الأصلي، صامويل بيكيت؛ ذلك أن الرجل ألفها بلغتين، أو بالأحرى صيغتين: الفرنسية والإنجليزية. والحال أن كتابة بيكيت تتحدى العديد من الممارسات الحداثية الأخرى، إذ تنطوي على نقد قوانين اللغة المطلقة والمحددة، وبلا هوادة حتى يصبح هذا النقد موجه للهوية نفسها، ونقد للتمثيل ونقد للتاريخ والإيديولوجيا... وبالإضافة إلى الانتقال إلى الفرنسية، وتكسير بناء الجملة من الناحية التركيبية، والإخلال بعلامات الترقيم، والانزياح عن القوانين والأعراف المحددة لأجناس الرواية والمقال والقصيدة واللوحة التشكيلية... يمكن قراءة دخول بيكيت المتأخر للمسرح كوسيلة أخرى في حرب طويلة ضد ‹الكلمة›، وكنوع من الرحلة إلى الحركة بدلاً من النص والصورة... لقد اعتمد قاوتي الصيغة الفرنسية وتمكن من صبر أغوار هذا النص الدسم بدلالاته الفلسفية المستلهمة من نيتشه وهايدغر... ونجح إلى حد بعيد في محاورة النص الأصلي قبل احتوائه واستنباته... يبدو هذا جليا من خلال العنوان الذي اختاره قاوتي كعتبة لولوج عالم بأكمله من الانتظارية والترقب... ‹سِيدْنَا قْدَرْ› في الذاكرة الشعبية المغربية هو ترميز مكثف لفعل الانتظار والترقب، حيث يسود الاعتقاد بين غالبية الناس البسطاء على أنه في وقت غير محدد من ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك ينزل ‹سِيدْنَا قْدَرْ› ليحقق أماني كل من تمكن من قيام الليل استعدادا لهذا اللقاء الاستثنائي... فبحلول الظلام تبدأ ساعات الانتظار لمرور ‹سِيدْنَا قْدَرْ› حيث يتوق التوابون البسطاء إلى رؤيته... فَسِيدْنَا قْدَرْ في المتخيل الشعبي المغربي يوازي شخصية ‹سانتا كلوز› عند المسيحيين (وهي شخصية ‹بابا نويل› المستلهمة من قصة القديس نيكولاس الذي عاش في القرن الخامس الميلادي حيث عرف بتوزيع الهدايا على المحتاجين دون علمهم).... فمع كل ترقب لسِيدْنَا قْدَرْ يقوم الجسد الطقوسي بمحاكاة ما جرى في ليلة القدر ... من المؤكد أن اختيار محمد قاوتي ل›سِيدْنَا قْدَرْ› كعنوان وكمعبر لاستنبات روح نص فلسفي مفعم بقضايا وجودية لم يكن محض صدفة؛ ذلك أن ‹سِيدْنَا قْدَرْ› مرتبط، بالنظر إلى المعتقد الشعبي المغربي، بليلة مقدسة لدى المغاربة وهي ‹ليلة القدر›. وبالتالي فإن اشتغال قاوتي في «سِيدْنَا قْدَرْ» هو بالأساس انتقال من بنية معتقدية/ثقافية مسيحية في «في انتظار گودو» إلى بنية معتقدية ثقافية إسلامية. إنه حوار مع المقدس الإسلامي. بالنسبة لقاوتي، يرمز سِيدْنَا قْدَرْ إلى مدلول غائب/متعالي... لكنه يشكل مركز الثقل في المسرحية برمتها بالرغم من غيابه. ويثير هذا الغياب الخاص الرغبة في إنتاج المعنى عند المتفرج. وتكون النتيجة تعددية في التحديدات المتعارضة لسِيدْنَا قْدَرْ، ويشكل كل واحد منها قراءة خاصة لماهية سِيدْنَا قْدَرْ. ما فتئت مسرحيات بيكيت تمثل وضعيات يتم إبداعها من لدن الممثل والمتفرج والشخصية والقارئ. وتكون بؤرة الاهتمام الموضع المباشر الذي تقذف فيه الشخصية وتصبح الحالة الفنية المعروضة بمنزلة حياة يشترك في تحملها الممثل والمتفرج. لا يفعل متشردا بيكيت ڤلاديمير وإستراگون Vladimir and Estragon، أو في المقابل كُرَّيْطْ وزْعَيْطْ، شيئا عدا انتظار ظهور گودو/سِيدْنَا قْدَرْ. وأثناء انتظارهما يتحدثان، ويأكلان، ويشتمان بعضهما البعض، ويحاولان الانتحار، ويتبادلان القبعات (تَارَازَه)، ويتقمصان شخصيتي بوزو ولاكي Pozzo and lucky، أو ابْتَرْ وزْمَرْ... وهكذا دواليك. وتكمن ماهية عرض گودو/سِيدْنَا قْدَرْ في صيرورة الانتظار المتبادلة، ويصبح گودو/سِيدْنَا قْدَرْ من ثم موضوع كل أشكال الانتظار. وبالنسبة إلى المتفرج، ثمة موضوعات أخرى من قبيل انتظار الفعل أو الحدث المسرحي وانتظار نهاية الانتظار. ويشكل فعل الانتظار الأرضية المشتركة بين الشخصيات والمتفرجين، على حد سواء. لقد لازمت المقولة الذكية «في انتظار گودو مسرحية لا يحدث فيها شيئ –مرتين» لVivien Mercier تاريخ تلقي المسرحية. والحال أنه حينما يبدو وكأن شيء لم يقع بالنظر إلى علاقة كُرَّيْطْ وزْعَيْطْ ، فإن الأمر يختلف جذريا بالنسبة إلى ‹المسرحية داخل المسرحية›، والتي تقدم لنا الثنائي الآخر المتمثل في ابْتَرْ وزْمَرْ. فظهور ابْتَرْ وزْمَرْ في الفصل الثاني (هَذْ اللِّيلَه) يبرز تحولا جوهريا في مصير الشخصيتين وعلاقتهما ببعضهما، وهي علاقة السيد/العبد. زْمَرْ الذي نطق لسانه شعرا - ولو غير مفهوم حيث تابعه كل من كُرِّيطْ وزْعَيْطْ باهتمام كبير بينما تابعه ابْتَرْ بامتعاض وتقزز - في الفصل الأول (ذِيكْ اللِّيلَه)، يظهر في الفصل الثاني (هَذْ اللِّيلَه) أصم لا ينطق. أما ابْتَرْ التاجر المتعجرف الذي اعتقد في الفصل الأول (ذِيكْ اللِّيلَه) أنه سيد الكون كله، يبدو منهكا في الفصل الثاني (هَذْ اللِّيلَه) وأعمى لا يبصر طريقه. ابْتَرْ وزْمَرْ: (يدخلان من كواليس الْجُنَيْنَةِ.) زْمَرْ: (ينوء تحت ثقل الأمتعة على غرار ما كان عليه في «ذِيكْ اللِّيلَه». يرتدي نفس ملابس «ذِيكْ اللِّيلَه». يضع على رأسه طَاقِيَّةً أخرى. يبدو أن ملابسه تآكلت بفعل الزمان.) ابْتَرْ: (يضع على عينيه نظارتين سوداوين يخفي بهما عينيه اللتين أُصيبتا بالعمى. يرتدي نفس ملابس «ذِيكْ اللِّيلَه». يبدو أن ملابسه تآكلت بفعل الزمان. يتمسك بزمام مثل زمام «ذِيكْ اللِّيلَه» غير أنه أقل طولا ليمكنه من اللحاق بزْمَرْ والتحكم فيه بطريقة أسهل.) زْمَرْ: (يتوقف عند رؤية زْعَيْطْ وكُرَّيْطْ.) ابْتَرْ: (يواصل مشيته إلى أن يصطدم بزْمَرْ.) زْعَيْطْ وكُرَّيْطْ: (يتراجعان.) ابْتَرْ: (يتشبث بزْمَرْ.) زْمَرْ: (يتمايل ويتأرجح من جراء الثقل الإضافي الذِي سببه له ابْتَرْ.) ابْتَرْ: (يَصْرُخُ وفي صوته نبرة ذعر.) آشْ ذَاكْ الشِّي؟! زْمَرْ: (يسقط وتسقط كل الأمتعة.) ابْتَرْ: (يسقط بدوره.) ابْتَرْ وزْمَرْ: (يتمددان وسط الأمتعة دون حراك.) (سِيدْنَا قْدَرْ، ص 180) كما أن كلام ابْتَرْ في جزء غير يسير من الفصل الثاني (هَذْ اللِّيلَه) اقتصر على الاستغاثة «اعَتْقُو الرُّوحْ – اعَتْقُونِي - غِيرْ اوَگّْفُونِي، اعَتْقُونِي! - انْتُمَا اعَتْقُونِي! اعَتْقُونِي! – وَا اَعَتْقُو الرُّوحْ...». يعكس هذا التحول تضمين مفاده أن المسار النقيض للانتظارية والترقب ينتهي بدوره بالبؤس واليأس. وبهذا تتم مسرحة مفهومين متناقضين للوجود في الزمن Being-in-time من خلال مسارين مختلفين في الظاهر ومتشابهين في العمق. حينما نتأمل شخصيات «سِيدْنَا قْدَرْ»، يتبين أن الثنائي الأول كُرَّيْطْ وزْعَيْطْ ينتمي إلى العالم الأسفل، بكل ما تحمل الكلمة من معاني اليأس والاستسلام والانتظارية... لقد جربا كل شيء قبل الاستسلام لليأس ولم يعد لهما من الإمكانيات المتاحة سوى انتظار ‹سِيدْنَا قْدَرْ› ذلك الكائن الغريب الذي قد يأتي أو لا يأتي، قد يحمل جوابا لأسئلتهم ووضعيتهم العبثية والمأساوية أو قد يأتي خالي الوفاض، قد ينقدهما مما هما فيه أو العكس... أما الثنائي الآخر ابْتَرْ وزْمَرْ الذي بدا وكأنه ينتمي إلى عالم الأحياء، عالم إيواليات الإنتاج والإستهلاك الرأسمالية.... فزْعَيْط، مثلا، عاش أيام الجوع، واشتغل مع عبيدات الرمى، واشتغل حصَّاداً... لقد أنهكه الدهر ولم يعد قادرا على الفعل: «... يُجْهِدُ (...) نفسه في خلع حذائه، مستعملا يديه الاثنتين في ذلك. يصدر عن الجهد الذي يبذله حنحنة فيتوقف منهكا. تسمع أنفاسه وهو يستريح. يحاول مرة أخرى خلع حذائه... يناجي نفسه بمرارة وقد عدل عن خلع حذائه: وَلُو، وَلُو، هَذْ ابَنْتْ الْكَلْبْ! وَلاَ بْغَتْ، هِيَّ، تَسْعَفْنِي!» (سيدنا قدر، ص 21) ‹وَ لُو› (لا شيء) هي أول كلمة نطق بها زْعَيْطْ وهي، في الواقع تجسد تصور بيكيت الذي مفاده «لا شيء أكثر حقيقة من الفراغ» (there is nothing more real than nothingness). حتى أبسط حركة، مثل تلك المتعلقة بخلع الحذاء من رجليه أصبحت عصيبة ومضنية. بالنظر إلى بنية المسرحية ككل، يبقى المسارين عالقين بفعل تأثير الزمن: مسار ابْتَرْ وزْمَرْ انتهى بالإعاقة الجسدية وما تلاها من مفارقات، ومسار كُرَّيطْ وزْعَيْطْ ينذر بالدوران في حلقات مفرغة يشكل فيها انتظار سِيدْنَا قْدَرْ واسطة العقد ونقطة تقاطع كل البدايات والنهايات. وبالتدريج أصبحت تراجيديا ابْتَرْ وزْمَرْ ترمز إلى تراجيديا الإنسانية جمعاء كما هي ممثلة من خلال ملحمة الانتظار لكل من كُرَّيْطْ وزْعَيْطْ. ولعل أبرز ما يؤكد ما سلف ذكره عن الاستنبات هو المغامرة الذكية لمحمد قاوتي في إضافة فصل ثالث للمسرحية ‹وَاحَدْ النّْهَارْ› دون زحزحة جوهرها وبنائها المحكم. فبالإضافة إلى الفصل الأول ‹ذيك الليلة› والفصل الثاني ‹هذ الليلة›، فقد تمت إضافة فصل ثالث تدور أحداثه في ‹وَاحَدْ النّْهَارْ بُعيد الصبح› وفي نفس المكان: «المكان: طريق قروي أو «مْرِيرَه» كما يصطلح على تسمية هذا النوع من المسالك. تنتصب في وسط الطريق شجرة ميتة قرضت الأرَضَةُ جزءا منها وأتى السُّوسُ على جزءها الآخر. تَحُدُّ جانب الطريق صخرة.» أما وقائع هذا الفصل فهي بمثابة ما بعد خاتمة، حيث «يدخل الفتى من كواليس الْجُنَيْنَةِ. لا ندري هل هو نفس فتى «ذِيكْ اللِّيلَه»، أم هو نفس فتى «هَذْ اللِّيلَه»، أم هو نفس فتى «ذِيكْ اللِّيلَه» و»هَذْ اللِّيلَه»، لكننا على يقين من أنه فتى «وَاحَدْ النّْهَارْ». يرتدي نفس ملابس فتى «ذِيكْ اللِّيلَه» و»هَذْ اللِّيلَه».» (سيدنا قدر، ص 225) يتوجه الفتى نحو مقدمة الخشبة ويخاطب الجمهور، مؤكدا بأنه لم يرسله أحدا هذه المرة، ولكنه بالرغم من ذلك فهو يحمل رسالة لمن يهمهم الأمر. رسالته هاته هي عبارة عن مضامين سبع شواهد قبور لكل من زْعَيْطْ وْكُرَّيْطْ ومن سار على دربهم من العباد. اختيار قاوتي لشاهد القبر يحمل أكثر من دلالة، كما أن عدد القبور المحصورة في سبعة يحيلنا على رمزية هذا الرقم في البنية المعتقدية الثقافية الإسلامية، والمغربية منها بخاصة. يعتبر شاهد القبر من أهم السجلات الحضارية والمصادر الأثرية التي تميط اللثام عن حقائق كثيرة تخص أناس عاشوا وعانوا، فماتوا... في زمن ما... ونقوش شاهد القبر هي مصادر كتابية ممتدة في التاريخ والتراث، ناهيك عن كونها شواهد أثرية ذات قيمة عالية... مع قاوتي يتحول شاهد القبر إلى سجل يدون مآسي زْعَيْطْ وْكُرَّيْطْ في زمن الانتظار. تتكرر في رأس الشاهد نفس العبارة «زْعَيْطْ وْكُرَّيْطْ. عَاشُو مَنْ دُونْ، مَاتُو مَنْ دُونْ»؛ تليها سبعة نصوص مختلفة في الظاهر، لكنها تتوحد في تجسيدها البليغ للوضعية المأساوية التي عاشها آل زْعَيْطْ وْكُرَّيْطْ. باختصار، فإن اشتغال محمد قاوتي على نص «في انتظار گودو» قد تجاوز الاقتباس النمطي إلى محاورة النص الأصلي واستنباته في بنية معتقدية ثقافية مغربية إسلامية. الهوامش. -1كتبت مسرحية «الرِّينْگْ» سنة 1989، وقدمها لأول مرة بالدارالبيضاء محترف مسرح السلام البر نوصي في 28 أبريل 1990 (إخراج نشيخ إبراهيم)، وعرضت للمرة الثانية بمكناس في 22 مارس 1991 (إخراج حسن العطار رفقة فرقة مسرح وليلي)؛ ونشرت سنة 2010 ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة بطنجة. وفي العاصمة البافارية بألمانيا حيث انعقد المؤتمر العالمي السادس عشر للفيدرالية الدولية للبحث المسرحي International Federation for Theater Research تحت شعار «ثقافات الحداثة»، وذلك من 25 إلى 31 يوليوز 2010، تم تقديم وتوقيع نص مسرحية «الرِّينْگْ» وتكريم الكاتب المغربي محمد قاوتي. ويوم الإثنين 26 يوليوز 2010 في الساعة السادسة بعد الزوال بجامعة لودڤيگ ماكسيميليانس بمدينة ميونيخ الألمانية قام كل من خالد أمين من المغرب ومارڤن كارلسن من جامعة نيويوركالأمريكية - ورئيس مجموعة عمل المسرح العربي - بتقديم فقرات التكريم، وبحضور كثيف من المنتدين والكتاب والنقاد المسرحيين من مختلف بقاع المعمور، وثلة من أصدقاء المحتفى به بمجموعتي عمل المسرح العربي والمسرح الأفريقي المنضويين تحت لواء الفيدرالية. 2 - محمد قاوتي، «الاستنبات»، ضمن كتيب مسرحية بوغابة، 1988. 3 - تم إنتاج مسرحية 'سِيدْنَا قْدَرْ' من طرف مسرح السلام البرنوصي (الدارالبيضاء) سنة 1985. أخرجها نشيخ إبراهيم وشخص أدوارها كل من عمر لهبوب، سعيد لهليل، عبد الحق بوعام، رشيد مرجاوي وأحمد صبراوي. سينوغرافيا حفيظ لهبوب. كما تم إنتاج مسرحية سِيدْنَا قْدَرْ، مرة ثانية، من طرف مسرح الشمس (الرباط) سنة 2001. أخرجها عبد الإله عاجل وشخص أدوارها كل من محمد بسطاوي، محمد خيي، عزيز العلوي وعزيز الخلوفي؛ سينوغرافيا عبد المجيد الهواس. -4 لقد عظم الله عز وجل ليلة القدر فقال ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، ذلك أن لهذه الليلة شأنًا عظيمًا: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾. فهي ليلة نزول الوحي الرباني على أشرف المرسلين، لهذا فهي ليلة مباركة يمكن التماسها وتحريها في العشر الأواخر من رمضان، وليس تحديدا السابع والعشرين... كما أن رمزية هذه الليلة وتجدرها في المتخيل الإسلامي جعلها أبرز فضاء طقوسي يستحضر بداية نزول الوحي. وبما أن المتخيل الشعبي متسم بصيرورات الحذف والإضافة وإعادة الصياغة، فإن حدث نزول الوحي مع الملك جبريل قد تطور إلى أن أصبح 'سِيدْنَا قْدَرْ'. -5 رغم مواقف بيكيت التي تميل إلى العدمية، فقد ظل دوما يستحضر استعارات مسيحية في أغلب كتاباته. فمسرحية «في انتظار گودو» مشحونة بصور واستعارات مسيحية مثل قصة اللصين المستلهمة من الإنجيل. كما أن وجود الشجرة والصبي وگودو (الشخصية الحاضرة- الغائبة)، كلها مفعمة بترميزات قابلة لأن تقرأ في إطار بنية معتقدية مسيحية. 6 - Vivien Mercier, A Review of Wanting for Godot, Irish Times, 8/02/1956. -7 «وَمُدَعْشَرٍ بِالْقَحْطَلَيْنِ الجَّوْعَلَيْنِ الْعَطْشَلَيْنِ تَحَشْرَمَتْ * شِقْطَا ضِغْصَيْهْ زُنْبُعاً وَخَرْخَرْ مُصَنْدَلاً كَالْقُرْطَلِ * وَالْعَبْكَبُوسُ الْكَيْعَسُوسُ الدَّمْغَسُوسُ تَمَا تَمَا تَمَاطَلَتْ * وَالْحَارِثِيَّةُ قَامَتْ طُرّاً طُرّاً وَاسْتَنْفَرَتْ وَلَمْ تَنَلْ مِنْ يَعْطُلِ * مِنْ فَيْهَفَاهَ بَيْدَبَاهَ وَمِنْ وَادِي الطَّوْطَسَانِ تَكَرْبَعَتْ * فِي حَضْرَةِ الدَّوَارِسِ النَّوَارِسِ النَّوَاگِدِ الْمُجَغْدَلِ... (مقطع من خطاب زمر، الفصل الأول ) ________________________ كتبت مسرحية «الرِّينْگْ» سنة 1989، وقدمها لأول مرة بالدارالبيضاء محترف مسرح السلام البر نوصي في 28 أبريل 1990 (إخراج نشيخ إبراهيم)، وعرضت للمرة الثانية بمكناس في 22 مارس 1991 (إخراج حسن العطار رفقة فرقة مسرح وليلي)؛ ونشرت سنة 2010 ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة بطنجة. وفي العاصمة البافارية بألمانيا حيث انعقد المؤتمر العالمي السادس عشر للفيدرالية الدولية للبحث المسرحي International Federation for Theater Research تحت شعار «ثقافات الحداثة»، وذلك من 25 إلى 31 يوليوز 2010، تم تقديم وتوقيع نص مسرحية «الرِّينْگْ» وتكريم الكاتب المغربي محمد قاوتي. ويوم الإثنين 26 يوليوز 2010 في الساعة السادسة بعد الزوال بجامعة لودڤيگ ماكسيميليانس بمدينة ميونيخ الألمانية قام كل من خالد أمين من المغرب ومارڤن كارلسن من جامعة نيويوركالأمريكية - ورئيس مجموعة عمل المسرح العربي - بتقديم فقرات التكريم، وبحضور كثيف من المنتدين والكتاب والنقاد المسرحيين من مختلف بقاع المعمور، وثلة من أصدقاء المحتفى به بمجموعتي عمل المسرح العربي والمسرح الأفريقي المنضويين تحت لواء الفيدرالية. 2 محمد قاوتي، «الاستنبات»، ضمن كتيب مسرحية بوغابة، 1988. 3 تم إنتاج مسرحية ‹سِيدْنَا قْدَرْ› من طرف مسرح السلام البرنوصي (الدارالبيضاء) سنة 1985. أخرجها نشيخ إبراهيم وشخص أدوارها كل من عمر لهبوب، سعيد لهليل، عبد الحق بوعام، رشيد مرجاوي وأحمد صبراوي. سينوغرافيا حفيظ لهبوب. كما تم إنتاج مسرحية سِيدْنَا قْدَرْ، مرة ثانية، من طرف مسرح الشمس (الرباط) سنة 2001. أخرجها عبد الإله عاجل وشخص أدوارها كل من محمد بسطاوي، محمد خيي، عزيز العلوي وعزيز الخلوفي؛ سينوغرافيا عبد المجيد الهواس. 4 لقد عظم الله عز وجل ليلة القدر فقال ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، ذلك أن لهذه الليلة شأنًا عظيمًا: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾. فهي ليلة نزول الوحي الرباني على أشرف المرسلين، لهذا فهي ليلة مباركة يمكن التماسها وتحريها في العشر الأواخر من رمضان، وليس تحديدا السابع والعشرين... كما أن رمزية هذه الليلة وتجدرها في المتخيل الإسلامي جعلها أبرز فضاء طقوسي يستحضر بداية نزول الوحي. وبما أن المتخيل الشعبي متسم بصيرورات الحذف والإضافة وإعادة الصياغة، فإن حدث نزول الوحي مع الملك جبريل قد تطور إلى أن أصبح ‹سِيدْنَا قْدَرْ›. 5 رغم مواقف بيكيت التي تميل إلى العدمية، فقد ظل دوما يستحضر استعارات مسيحية في أغلب كتاباته. فمسرحية «في انتظار گودو» مشحونة بصور واستعارات مسيحية مثل قصة اللصين المستلهمة من الإنجيل. كما أن وجود الشجرة والصبي وگودو (الشخصية الحاضرة- الغائبة)، كلها مفعمة بترميزات قابلة لأن تقرأ في إطار بنية معتقدية مسيحية. 6 Vivien Mercier, A Review of Wanting for Godot, Irish Times, 8/02/1956. 7 «وَمُدَعْشَرٍ بِالْقَحْطَلَيْنِ الجَّوْعَلَيْنِ الْعَطْشَلَيْنِ تَحَشْرَمَتْ * شِقْطَا ضِغْصَيْهْ زُنْبُعاً وَخَرْخَرْ مُصَنْدَلاً كَالْقُرْطَلِ * وَالْعَبْكَبُوسُ الْكَيْعَسُوسُ الدَّمْغَسُوسُ تَمَا تَمَا تَمَاطَلَتْ * وَالْحَارِثِيَّةُ قَامَتْ طُرّاً طُرّاً وَاسْتَنْفَرَتْ وَلَمْ تَنَلْ مِنْ يَعْطُلِ * مِنْ فَيْهَفَاهَ بَيْدَبَاهَ وَمِنْ وَادِي الطَّوْطَسَانِ تَكَرْبَعَتْ * فِي حَضْرَةِ الدَّوَارِسِ النَّوَارِسِ النَّوَاگِدِ الْمُجَغْدَلِ... (مقطع من خطاب زمر، الفصل الأول )