الانحياز للاقتصاد اللغوي الذي يتغيى تفجير فيزياء المعنى يتشكل غلاف المجموعة القصصية «ضجيج الذاكرة» للقاص المغربي إبراهيم أبويه الصادرة عن دار الوطن من أيقونات وعلامات تختلف إيحائيا لتتصل مع بعضها دلاليا، حاملة مقولا حافلا بزخم المعنى الواضح حد الالتباس، والملتبس حد الوضوح، ومع ثنائية الغموض والوضوح ينهض المعمار الدلالي للغلاف ليشعل أسراره. الخلفية يتقاطعها البياض الخفيف والأزرق الداكن، إضافة إلى سواد ينحاز عن قصد إلى بني مرتعش، كأن بياض الفطرة ونقاء الأبجدية انضافت إلى سواد الواقع المقيت، فاعلة فيه منفعلة به، لولادة زرقة متمردة لا حدود لها. زرقة السموات السبع أم جرح البحار أم زرقة المعنى المولود من اصطدام الألوان تلك؟ في الوسط تشتد الإنارة مستبدة بمنتصف الورقة، داخلها يتموقع شخص يحمل حقيبة، يتجه إلى قلب الضباب. عن يمينه ويساره أعمدة تزداد صغرا كلما انزاح البصر إلى أن تصير لا شيء. والشخص واقف ينظر إلى البياض البعيد مرخيا ذراعيه. وفي الأعلى يستقر العنوان»ضجيج الذاكرة» متشحا بالبياض الناصح الذي أشرقت به حروف بارزة مائلة إلى حد ما كأنها ترقص في وليمة سردية. نحن أمام ذاكرة تحمل وعيا ولاوعيا. ذاكرة مثقلة بمعانٍ ومشاهدَ وشمت بأنامل مدربة. ذاكرة، كما يشي بذلك العنوان، يؤثثها ضجيج ما؛ ضجيج ليالٍ يسعى السارد إلى القبض على كيميائها. فلتَحْلُ رحلتنا مع ذلك القبض الحكائي الشذري المغري. وأنا أقرأ»الضجيج» ألفيتني مقتربا من صاحب الذاكرة وهو يحدق مليا في سرب طيور يتجه نحو الشمس. «هذا هو إبراهيم أبويه: داعية بثوب بوذا، صوت داعٍ إلى التطهير الجمالي من درن ما».. «بلل لسانك بماء الحقيقة وادخل محرابها متطهرا».. «سنفعل يا إبراهيم.. سنفعل لا محالة.» ضجيج الذاكر، مجموعة قصصية تنحاز في معظمها إلى الاقتصاد اللغوي الذي يتغيى منه الكاتب تفجيرا محتملا لفيزياء المعنى. تضم المجموعة ثلاثا وأربعين قصة، تختلف طولا وقصرا ودلالة وبناء. لكن ثمة ما يجمعها: ذات تنسكب أوجاعها القديمة/ الجديدة. تسكبها بالتقسيط تارة، ودفعة واحدة تارة أخرى. ذات غير محايدة أبدا، بل متصلة جدليا بمحيطها الاجتماعي والثقافي والنفسي بشكل جوهري. من هنا لا يخطئ البصر ولا البصيرة في تلمس الحضور القوي للأم والأب في متون النص، في منطوقها الواضح ومفهومها المضمر. ثمة حنين شاسع فجائعي لأيام الطفولة. حنين يكاد يكون نوستالجيا. كأني بك يا إبراهيم ترى الآن الأشياء تنزف تاركة وراءها حطام الكلمات اليتيمة)، ولأن الفجر يبزغ حاملا كفنا مدثرا بالسواد، فإنك تفتح منفذا في ذاكرتك، لتنسكب أنسام الأم، هادئة، معطرة. ولتنبعث كينونة الأب المغروسة فيك، انتماء وذاكرة وامتدادا. في المجموعة هدم وبناء. ثمة مبانٍ سوداءَ ذات أسقف شكلت من جماجم ما. أبنية الواقع والايديولوجيا ومنظومة القيم المنهارة. ما كنتَ متفرجا ولا محايدا، بل منخرطا في هدم هذه الالتواءات اللعينة قصد بناء نقيضها. ضوء مجازاتك يجمّل ليل المدينة: الليل يجمع حقائبه الآن تاركا وراءه مدينة مزقها العطش وهجرتها العصافير. من هنا تكمن أهمية»ضجيج الذاكرة» استيعاب واضح لمفارقات الواقع، ووعي بمفارقات عريه الفاضح. الكاتب يحلم بمدينة أفضل، بحدائق أكثر جمالا، بلغة أكثر مراسا، وبشمس لا تنطفئ أبدا، شمس الواقع التي طالما أصابها عطب الحياة المفارق: نصبته الثعالب ملكا.. نزع أنيابه، نظف فمه، صفف شعره، تعطر ولبس ثوب الملائكة. توضأ وصعد المنبر.. رفع يديه للتحية.. المخالب لا زالت هناك. في هذا النص الموسوم بتحولات فضح للذين يلبسون الأقنعة.. ولكن لا مفر من التعرية مهما كان القناع سميكا. إن المكانة المعتبرة والمقام العالي يقودان الناس إلى تحولات كثيرة: نزع الأنياب هو نزع لآلة القمع والبطش، واستبدالها بالعطر المتصل دلاليا بمفردة الملائكة،لكن رغم كل شيء، يتكشف للناس أن ثوب الملائكة الأطهار لم يستطع أن يخفي تلك الأنياب الباطشة التي ما زالت موجودة! هو انتقاد حاد لمفارقات الواقع. انتقاد للذينيتسابقون لتسلق جدار شيد في جوف الليل. يتسلقون ويصعدون ثم أخيرا يسقطون بعنف. المجموعة القصصية تسعى إلى تصوير موتهم المجاني. إلى رصد عمليات ارتطامهم العبثي بأرض الواقع. ثمة انحياز إلى قضايا إنسانية، وطنية وقومية، والقصص الآتية شاهدة على هذا الارتباط الإنساني للكاتب بأسئلة الوطن والعروبة: «الذوبان: كان يعلم، المهدي بن بركة، أن الشر سيأتي من رحم الوطن، لكنه احتضن اللقاء الأخير.. عنف المكان: حين التفت وراءه أبصر سوطا يرسم تفاصيل البلاد.. غزة: أشلاء غزة تناثرت في كل البيوت العربية. أيها العربي الجميل : نم واقفا، فجسدك لم يعد يحتمل الانهيار». تحكي متون هذه القصص غربة الذات داخل وطنها، ورفضها لصوت الليل؛ الليل المدجج بالقهر والسوط والسباب الجارح. هي ذوات كلما صفعها ليل العذاب كلما تمردت وطارت مصافحة الشمس. جدير بالذكر أن إبراهيم أبويه عاشق أبدي للشعر، وهو يسرد الأشياء لا ينسى أن يشعرن كيمياءها. يحول ما تراه العين إلى مرئيات متشحة بمجازات غير منقادة. لهذا استطاع أن يزرع في لغته الكثير من سحر البلاغة، مابين ومضات استعارية: تغتالها الأسئلة، تقيأت الحافلة بؤس الركاب ..يعتقل الفجر بداخلها، وبين تشبيهات قوية: كاصطدام الغيم في قلب العاصفة.. كصراخ الرعد في كبد السماء..كسيف غادر يقطر دما.. إن قارئ المجموعة يخلص إلى وجود أربع سمات أساسية تطبع النصوص بميسمها الخاص: أولا- الملمح الرومانسي: هناك حضور لافت لحقل دلالي يمتح مفرداته من الطبيعة، ليلها وشمسها وصفصافها وريحها وخريفها، والجميل أن الطبيعة ليست مجرد ديكورات للتزيين وملء جغرافيا الورقة، وإنما أسهمت بإيجابية في تصعيد الخط الدرامي للنصوص، وهي طورا تتصل اتصالا واضحا بتيمة الحنين إلى الماضي، وتارة بتيمة التعبير عن غربة الذات المكلومة وقلقها الأسطوري: الغيوم المتكدسة بلا نظام تحاصرني.. أراها.. أطأ عليها فأذوب كقطعة ثلج تائهة في الصحراء. ثانيا- الملمح الغرائبي: إن هذا التعبير يقرب القارئ من فهم تصدعات الواقع. ثمة علاقات تجمع الأشياء، والأسباب بالنتائج، وهي في معظمها علاقات تشظٍّ وانفصام. أليس هذا هو توصيف واقعنا المعاصر؟! لهذا استند الكاتب إلى التعبير السوريالي لتعميق رؤيتنا للواقع، فكأن هندسة علاقات جديدة مختلفة لمعمار وجودنا الذاتي والجماعي هي السبيل إلى تصحيح ما اعوج. كأن العجائبي هو المألوف والاعتيادي في اللاوعي، بينما الوجود المادي، العادي للكائن ليس إلا تصدعات وانهيارات تتحقق في بنية القيم والذات والمجتمع: هاجمت مخلوقات بعيدة كوكب الأرض، وقتلت الديناصورات التي حكمت بالقوة... ثالثا- ملمح الموقف السياسي: من الواضح أن القاص يحمل معه وطنه أنى حل وارتحل، يحمله جغرافيا ممزقة وتاريخا دمويا. إنه ينظر إليه وقد أصبحت المزابل أكثر من الحدائق، والمقاهي أكثر من المدارس، والسيارات أكثر من الطرقات.. إن الكائن البشري داخل هذا الوطن بئيس، مستلب، مغترب، ومهضومة حقوقه:.. كبر، درس، طلب العلى، نال شهادات، لم يجد عملا.. لم يجد بيتا يحفظ كرامته.. ويحضر الوطن بأقنعة مختلفة، فتارة هو قرية مدفونة في جبال الأطلس، حيث الانفصال عن العالم الخارجي، وصعوبة التضاريس. وتارة هو المدينة بكل حمولتها السلبية، على اعتبار أنها أداة افتراس منظم لثمار الفطرة والصفاء. وتارة أخرى هو الوطن بمفهومه العام: حفنة تراب، ودمعة أم، وحرية مشردة في الجبال، ومناضلون يسعون إلى زرع نشيد ما.. رابعا- ملمح اللغة والخطاب: من الواضح أن القاص يدرك ما للغة من أهمية في تشكيل وعينا الجمعي، وما تختزنه من طاقات بلاغية وإيحائية، لذلك فقد وظفها أحسن توظيف، ساردا أحيانا وواصفا أحيانا أخرى، وبين عمليتي السرد والوصف يتأمل العالم من حوله بعين الأبجدية القديرة، لهذا كان لزاما الاقتراب من دفء الشعر، واستعارة أدواته وأزاميله لتوقيع تلك الحفريات السردية الجميلة على جسد الذاكرة ذات الضجيج العالي. يلاحظ أيضا المراوحة بين أسلوبي الخبر والإنشاء؛ فمرة يقتضي المقام خطابا خبريا قوامه الإخبار والتفسير، ومرة أخرى يستوجب المقام خطابا إنشائيا يستند على الأمر والنداء والاستفهام.. داعب ضميرك أيها الراقد فوق التراب.. حاول أن تفك ألغاز كينونتك.. كيف لي أن أراك وأسمعك وأتذوقك وقد غسلتك الغيوم المحملة بالتراب؟ مدينتي تنتحب كل يوم.. فمن يكتب ألمها يا ترى؟؟.