التاسعة صباحا من يوم السبت، ساعة استيقاظ عزيز من نومه، ليلة ممطرة قضاها كعادته رفقة أصدقائه بالبيضاء، لم يغمض له جفن طيلة الليلة بسبب صوت المطر والرعد، ينام تحت شجرة بلوط حيث المياه تتساقط مباشرة فوق مرقده، أما ملابسه فقد تبللت بالكامل. ذكريات مؤلمة ...ومصير مجهول برد، جوع وتشرد عوامل عانى منها عزيز مند نعومة أظافره وما يزال وضعه المأساوي مستمرا إلى الآن، ينام وذهنه شارد تفكيرا في قوت الغد يعمل كثيرا و لا مهنة له، غالبا ما ينام مستيقظا، سؤال محير لم يجد له جواب «لماذا واجهتني الحياة بمحنها بينما الآخرون متمتعون بنعمها»، حاول الانتحار عديد المرات، لكن القدر أعاده للحياة، ذبح عنقه بسكين، أكل كميات كبيرة من « القرقوبي» وقفز من علو 20 متر، غير أن عمره أبى الانتهاء. سرد لنا ماضيه والدمع لم يفارق عينيه، لم يرد البوح بأسراره لأنها تؤلم قلبه فلسانه، فما أن رأت عيناه ضوء الحياة حتى مات أبوه في حادثة سير على مشارف مدينة تزنيت، تزوجت أمه رجلا ثان لم يكن يشفق عليه، بل كره أمه فيه، حيث أزل بها الشيطان الآدمي لرمي طفلها الوحيد بالمركز الاجتماعي ب»تيط مليل» بالبيضاء، في ذلك الحين لم يكن عزيز قد استوفى عقده الأول حيث عاش طفولته ببؤس و مرارة. في سن 19، لم يعد الاستقرار بالمركز الاجتماعي يفيده في شيء، ينام، يستيقظ، يأكل، فينام من جديد، صارت حياته رتيبة ومملة. لم تكن فكرة الهروب من المركز الاجتماعي تدب في دهنه لكن أصدقاءه أرغموه على التسلل والهروب سوية من «سجن الأطفال». واجه ذئاب الشارع و وحوشه فلم يقوى على مقامتهم، كانوا مجهزين بعتاد وأسلحة بيضاء وبنيات جسدية ضخمة، فاستسلم في مرات عديدة، حيث أجهش بالبكاء قائلا «اغتصبني آكلي اللحوم الآدمية وأفرغوا شهواتهم الجنسية في جسدي النحيف الذي قاومهم بالصمت والصبر». ماضي مؤلم وذكريات حزينة لا يحب عزيز أن يذكرها لأحد بل يتركها تغرق في بحر النسيان. يمسح دموعه التي غسلت وجهه صباح يوم ممطر. فيتجه نحو أصدقائه النائمين كي يخبرهم بحلول يوم شاق . بعدما تخلصوا من أغطيتهم المبللة المكوًنَة أساسا من «ميكا» و»كارتون» وأكياس بلاستيكية، انطلقوا وأيديهم في جيوبهم للاحتماء من برد الصباح، يبحثون عن الأشياء الممكن بيعها لأيا كان وبأي كان والهدف تناول كسرة خبز أو ما شابهها. في طريقهم نحو الدروب الشعبية ل»مرس السلطان» جمع الأصدقاء الأربعة قنينات زيت فارغة من فئة 5 لترات وبضع أكياس قمح، قصد بيعها للطواحن و محلات بيع الزيتون. تناولوا فطورهم عند 11 صباحا وانطلقوا بمكانسهم اليدوية نحو «سوق جميعه « الذي تقصده عائلات عديدة لشراء خضر و فواكه الأسبوع. السوق مكتظ نساءا ورجالا وأصوات الباعة تعاود نداءها لجلب الزبناء، لا أحد يقف عن الحركة والدرهم متداول بين الجميع، يباشر الأصدقاء الأربعة عملهم، قذارة محلات الأسماك والخضر يكتشفها زائر السوق عند دخوله، رائحة نثنه ومياه عكرة تبلل الأرضية، النتانة تسّرع حركة الزوار لاقتناء أغراضهم، غير أن عزيز وثلاثته عاكفون على تنظيف المكان لكسب دراهم معدودات تضمن لهم وجبة غذاء. ينظفون محلات السوق واحدا تلو الآخر، أحيانا يكون أجرهم درهما أو درهمين وأحينا أخرى يجزون ب «الله يسهل» يجوبون السوق طولا وعرضا قصد تصريف الدراهم المجناة أكلا، يرددون عبارة «تعاونوا معانا»ويكنسون أرضية السوق دون ملل أو هوادة. وصلوا إلى آخر محل بالسوق، نظفوا مساحته الأمامية فجاد عليهم صاحبه بخمسة دراهم، لم يعدّوا دراهمهم بعد، لما خرجوا كانت تعابير الشوق بادية على وجوههم، حصة مالية مهمة ورنين اصطدام الدراهم ببعضها يطرب مسامعهم. 80 درهم كحصيلة العمل في الفترة الصباحية : 20 درهم للفرد. جلسوا بمحلبة تجاور السوق، طلبوا قطعَ خبز مزبد وكؤوس شاي منعنع، تناولوا غذائهم بشراهة كبيرة، الشاي تدفق من جوانب أفواههم، لم يفرقوا بين يمناهم من يسراهم، ما مسكت أيديهم كان حلاّ لهم. فطورنا غذائهم وحالة أجسادهم لا تشبهنا قط، وزن أكبرهم سنا ( العربي 49 عام ) يقل عن 50 كيلوغراما فالسبب راجع للوجبات اللامنتظمة وسوء التغذية. مرضى وأجسادهم نحيفة، تكاد رياح السماء وأمطارها تسقطهم أرضا. واقفين بأرجل مشلولة أنهكها برد فصل الشتاء.أما أجسامهم فتجر وراءها سنوات من التشرد والبؤس والأمية. خرجوا من المحلبة و حاجتهم إلى النوم أكثر منها إلى الأكل، يسيرون بخطى متثاقلة، ويلتفون حول بعضهم البعض من شدة عيائهم ،يثقون بأرجلهم رغم كذبها فتسقط أجسادهم مرات عديدة. الساعة الآن تشير إلى 4 زوالا، الوجهة هذه المرة درب كبير، وصل عزيز و رفاقه إلى الحي لجمع الدراهم التي سيقضون بها الليلة، مهمتهم توفير ثمن كمية من الحشيش و»سمطة قرقوبي» وعلب سجائر. بمكانس يدوية وأكياس بلاستيكية من الحجم الكبير، يباشر الأصدقاء الأربعة عملهم، اثنان في مقدمة الدرب و آخرين عند نهايته يكنسون الأزقة طولا و عرضا لجمع القنينات البلاستيكية و الحديدية «كانيط»، فشتاء الصباح أزالت الغبار و لم تزل الملوثات الصلبة ، يدقّّّوّن منزلا فآخر وينادون «مول الشطابا» دراهم من هنا و أخرى من هناك و لعل تعاطف المارة معهم أكبر دليل على حالتهم المتدهورة، لا يتركون بابا إلا ودقوه بثلاث. الوضع بالحي ليس كحال السوق، فحركة المارة تدب باستمرار والمنازل كثيرة، لذلك يعول الأربعة على حصة وفيرة من المال، يجمعون الأكياس البلاستيكية التي جمعت بدورها قذارة الأزقة وأوساخها ويركنونها في جانب من الدرب حتى تمر شاحنات الأزبال لجمعها. انزوا الأربعة في ركن بمحطة ولاد زيان وأخذ عزيز يعد ما كنست أياديهم زوالا، أكمل العد فوجد مبلغ 300 درهم، فرح الأصدقاء واقتسموا المبلغ بينهم، هذه المرة سيمضون ليلة حلمية تجعلهم يحلقون بأذهانهم فوق سماء العالم لعلهم يجدون هناك دفئا وراحة تنسيهم عناء اليوم وقسوة الماضي. تشرد بصيغة المؤنت في طريقهم نحو «البزناز» صادفوا حنان إحدى المتشردات التي تمضي ليلها معهم أحيانا، جيوبها فارغة ودراهم الأصدقاء تغريها لمرافقتهم، ملابسها مبللة، شعرها وسخ، وجهها تملأه الخدوش يداها سوداوتين رغم بشرتها البيضاء و لا تنتعل شيئا. للحديث عن حالتها الحالية وجب تذكر ماضيها المأساوي الذي طبعته المعاناة بإمضاء لا يمحى، سُجّلت فصوله في صفحات تاريخية لا يعرف أرقامها إلا المقربون من الفتاة. قصتها كالتي جسدتها الممثلة المغربية هدى الريحاني في فيلم «البرتقالة المرة «، كانت فتاة تلمع جمالا صغيرة السن، عيبها الوحيد :الأمية، لا تمييز الحروف من الأرقام .لم تكن تتلقى نقودا من أسرتها، لم يكن لها أقارب، كانت حياتها روتينية ومملة . ذات يوم ستلتقي حنان بشاب في مقتبل عمره، شرطي يعمل بدون هوادة، يطالع كثيرا لعله يرتقي بدرجاته في العمل، وجدها بين أشجار إحدى الحدائق فأنزلها من فوق أحد الأغصان. أغرمت حنان بالشرطي فصارت تتخيله أمامها طيلة وجودها بالبيت، سمعت أنه سيأتي طالبا يدها للزواج، لكن شيئا لم يكن. تزوج الشرطي امرأة أخرى تمتاز عن حنان بالدراسة، فانهارت حياة حنان و دخلت على اثر ذلك مستشفى الأمراض العقلية ببرشيد، تركت وحيدة طيلة الوقت ولما خرجت منه وجدت نفسها في الشارع تتقاذفها أجساد المتشردين لإشباع شهواتهم الجنسية. قالت باكية : «لا أريد اما أو أبا، أريد فقط دفئا وحنانا، كيف أستطيع توفيرهما، الشارع ينظر لي نظرة احتقار و تهميش و الناس يتجنّبون محاذاتي. فكيف سأعيش حياتي ؟، اللهم هؤلاء الأصدقاء الذين أهبهم جسدي مقابل غرامات من المهدئات « أكملت طريقها رفقة الأربعة وعينيها قد ذرفت من الدموع ما أمطرت به السماء صباحا. جاءوا «البزناز» طلبا في غرامات من الحشيش وعلب سجائر وبضع حبات من «القرقوبي» وفّر لهم ما احتاجوا إليه ودفعوا له تعب يوم كامل. قصد الرفاق الخمسة مكانا مهجورا قرب محطة القطار ب»بوشنتوف»، حيث بدءوا باستهلاك ما كنست أيديهم طيلة يوم كامل، بدءوا ب «قاقا» لأنها حسب قول أحدهم «كالطلّع لينا لمورال و كولشي كيولي ساهل» ثم تلوها بالسجائر واحدة تلو الأخرى، النشوة تملاء أعينهم و وجوههم تعبر عن السعادة الوهمية و المؤقتة. أكملوا علب السجائر و كل ما لديهم من مخدرات فبدأت أعينهم تنغلق، ربما النوم يناديهم للفراش، أي فراش و أية أغطية، مفترشين «الميكا و الكارطون» و ملتحفين السماء بنجومها المزركشة، يضعون أجسادهم فوق أرضية مبللة ولا علم لهم بذلك. صمت رهيب عمّ المكان و الكل خلد للنوم، يوم كامل قضته «بيان اليوم» رفقة متشردين حكمت عليهم ظروفهم الاجتماعية بالسكن في الخلاء و أوكار الشوارع فأية مكانة لهؤلاء المتشردين سوى الإقصاء في مغرب بدأ مسلسل التطور و الحداثة مند سنوات مضت. التشرد كلمة تحمل معاني الفقر والأمية والحرمان وما خفي كان أعظم، هؤلاء المتشردون لم يقترفوا ذنوبا في صغرهم كي يجزون حياة بئيسة كالتي يعيشونها حاليا، فالّلوم كله على آبائهم الذين استخفوا بكلمة «زواج».