يفترشون الأرض، ويلتحفون العراء، ويموتون ذات ليلة كأي شيء منسي في ركن من أركان هذا المجتمع . مجانين، مذمنون،مطرودات أو مطرودون يعيشون على هامش دورة الحياة الاجتماعية، وشيئا فشيئا تتحول مدينة الصويرة إلى حاضنة كبيرة لهذه الفئة الاجتماعية التي تقطعت بها سبل الحياة، بعد أن كانت الحالات في السابق محسوبة على رؤوس الأصابع. ولكل حالة قصة خاصة ، مسار متفرد اثنه الحلم ودفء الحياة الأسرية بحلوها ومرها، لتنتهي وتلتقي في درب مفروش بألم المعاناة ، مفتوح على كل الاحتمالات. متشردون من مدينة الصويرة ، أو نواحيها، أو قادمون وقادمات من مدن أخرى، يسوقنا الوقوف عند حالاتهم إلى ضرورة تصنيفهم تبعا لظروفهم الاجتماعية وملابسات ودوافع تشردهم. فإضافة إلى مجموعة من أبناء المدينة المدمنين الذين ضاقت بهم سعة صدر أسرهم وأصبحوا خطرا على آبائهم وأقربائهم، وهربوا باذمانهم إلى الأمام، هنالك فئة قادمة من نواحي مدينة الصويرة نساء على وجه الخصوص، كانت أول خطوة يضعنها على الدرب التشرد لحظة ارتعاشة مسروقة من رقابة المجتمع القروي الذي لم يكن رحيما مع أخطائهن، ولا كان المجتمع الحضري عفيفا أمام ضعفهن وأنوثتهن العارية من أي حصانة معرفية أو مهنية، ليتحول الجسد إلى مذبحة للروح والأحلام الجميلة، فالاذمان بجميع أشكاله، فالانحدار تدريجيا إلى القاع الذي ينتهي بصاحبته بين أحضان متشرد تقاسمه قارورة خمر من النوع الرديء، وجسد تيبست أوردته. وهنالك فئة من المتشردات والمتشردين يأتون من مدن أخرى لكل قصته وظروفه،غير أن اخطر الفئات التي لا زال المجتمع الصويري غير منتبه لتنامي أعدادها وهي فئة الأطفال الذين يعيشون تشردا مقنعا، حيث بدؤوا يتكاثرون كالفطر في أحياء المدينة يتسولون سواد يومهم، ينتهي بهم الأمر أحيانا بين براثن شاذ جنسيا، ليتحولوا إلى أجساد صغيرة تعرض بضاعتها لتبتاع ما اذمنت عليه في غفلة من أولياء الأمور الذين يحتاجون إلى أكثر من مساءلة. حين تنطفئ جذوة الحياة كان الجو مطيرا وباردا، حين تم اكتشاف شابة في مقتبل العمر وقد فارقت الحياة أمام إحدى الثانويات بمدينة الصويرة. سكتة قلبية غادرة وضعت باكرا حدا لحياة بدأت عادية وانتهت بمأساة التشرد. فتاة شابة ضامرة الجسم من نواحي مدينة الصويرة ، رغم وجود أقربائها بالمدينة ، إلا إن مسار حياتها اتخذ منحى آخر ساقها إلى عراء التشرد وبؤسه لتنتهي حياتها وحيدة ذات ليلة ظلماء باردة. حالة أخرى من حالات تلتقين في نبذ المجتمع لهن، تحيلنا على حالة الشابة التي حلت بمدينة الصويرة منذ أواخر التسعينات، كانت رغم حالة الاذمان البادية على ملامحها، لا تزال تتمتع ببعض نضارة ، لترتمي مباشرة بين أحضان أجنبي مذمن عابر يبحث عن بعض متعة بين أحضان امرأة مغربية مذمنة بلا قيود أو عقد . ومرت أيام المشمش سريعا، عاد السائح إلى دياره بمساحة الترف والمتعة، لتجد الفتاة المشردة نفسها بين أحضان المجهول من جديد. وأمام ضغط الاذمان كان من اللازم أن " تقضي باللي كاين "، لينحدر سقف انتظاراتها إلى ما تحت القاع عساها تؤمن ما تيسر من الخبز و المخدرات. بعد سنة من حلولها بالمدينة، بدأت أحوالها تسوء بشكل كبير، فحتى الجسد الذي كانت بعض نضارته سلعة رخيصة صار ضامرا بدون جاذبية تذكر، لتلج عالم التشرد من بابه الواسع. حيث بدأت تشاهد نائمة على قطعة من الكرتون في زاوية ن زوايا المدينة العتيقة تحملها أينما حلت وارتحلت، تقتات على تعاطف بعض المواطنين، وتدبر وضعها الجديد ليلة بليلة، لتتحول إلى مجرد شبح بدون ملامح تتملكها لحظات عدوانية قوية دفع ثمنها عدد لا يستهان به من النساء اللواتي ت تلقين ضربات فجائية في أنحاء متفرقة من أجسادهن. وفي غمرة حياتها العبثية الخاوية من كل إحساس بالمحيط الاجتماعي المتعالي على أوجاعها، وجدت نفسها حاملا تكابد ما تكابده جميع النساء من وحم وحمل، لتضع بعض تسعة شهور عصيبة تقاسمت والجنين جوعها وبردها ووجدتها، طفلا لم ينجح الطاقم الطبي في فصلها عنه إلا بعد تدخل قوات الأمن بأمر من وكيل الملك اعتبارا لوصول قدراتها العقلية والنفسية إلى مستوى من الضرر يهدد سلامة الطفل. منذ ذلك الحين اختفت من أزقة المدينة العتيقة وزواياها، رحلت أو رحلت إلى غير رجعة، أو إلى حين... تشرد، اذمان وقتل كانا يشاهدان معا، رجل وامرأة متشردين، جمعتهما حياة التيه وشيطنة الاذمان. لسنوات تقاسما ليالي صاخبة في ركن من أركان مدينة الصويرة ، وفي كل مرة كان المشهد واحدا، مواقف مشادة وشنآن وتبادل سب لا يفسد للود قضية في آخر المطاف. بعد فترة اختفت عن الأنظار، انقطعت أخبارها عن أفراد عائلتها لمدة سنة كاملة، ليقوموا بإبلاغ مصالح الشرطة القضائية التي أطلقت مسطرة بحث ساقتهم مباشرة إلى رفيقها في التشرد. وبعد إنكار واخذ ورد ، اعترف بقتله للمبحوث عنها في إحدى الليالي الخمرية التي تخللتها مشاداة بينهما ، لم يسلم خلالها من عدوانيتها وسطوتها، ليقوم في لحظة جنونية بالإجهاز عليها خنقا وتغطية جثتها بقطع من الكرتون بين الأحراش في فوق ارض غير مبنية وسط حي التلال بالصويرة . لشهور طويلة بقيت جثتها مرمية كأي شيء ميت بدون أن ينتبه إليها بشر أو حيوان، وليكون اكتشاف جثتها وحل لغز اختفائها بوابة لفك لغز جريمة قتل أخرى كان بطلها نفس القاتل المتشرد وضحيتها متشرد آخر اغتاله في نفس المنطقة تقريبا، وبنفس الطريقة، إلا أن تفسير الطبيب الشرعي الذي اعتبر الوفاة طبيعية جعله آنذاك خارج الشكوك، ليعترف بعد عام بقتله لرفيقه خنقا في لحظة سكر وعدوانية أتت على ما تبقى من قدرته على التمييز والتفكير السليم. عائلة متشردة كانت اغرب الحالات وأكثرها مأساوية تلك التي عاشتها أم وأطفالها الأربعة بالمحطة الطرقية لمدينة الصويرة منذ سنتين، وفدوا على مدينة الصويرة مكرهين ، حسب رواية الأم، بعد أن قام احد أقرباء زوجها بالاستحواذ على أرضهم وطردهم من الدوار الواقع في إحدى جماعات الشياظمة بإقليم الصويرة، لتجد نفسها بدون مأوى أو سقف يجمع شمل أسرتها، وبدون أمان وحماية من تهديدات هذا القريب. فحملت أطفالها إلى مدينة الصويرة لتعيش فترة حياة من التشرد تقتات على تعاطف المواطنين وتضامنهم مع قصتها التي كانت ترويها بكثير من الحرقة ، فيما اتخذت من المحطة الطرقية ملجأ إلى حين. بعد فترة اختفت عن الأنظار، لم يتسنى لأي احد معرفة وجهتها ، لكن الأكيد أنها باتت تعيش رفقة أطفالها حياة بدون ضمانات، بدون أفق، وبدون إحساس بالأمان، وان تشردها لا يمكن أن ينتج إلا تشرد صبيانها وبناتها وأشياء أخرى .. تشرد مقنع شيئا فشيئا يتكاثرون، مجموعة من الأطفال لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشر، ملابسهم رثة، يخاطبونك بكثير من المسكنة وغير قليل من الشيطنة: " نريد خبزا"،والحقيقة أن الخبز ليس هو المطلب، بل بعض الدراهم التي تجود بها مساحة التعاطف الكبيرة مع صور الأطفال العراة الجياع. في أول الأمر اعتقدت أنهم بدون اسر، لأصدم حين السؤال بان أولياء أمورهم يقطنون في حي أزلف ، وأنهم متمدرسون كذلك، لكن واقع الإهمال من طرف الآباء لظروف اجتماعية أو اقتصادية لصيقة بفئة من ساكنة حي الملاح الذين تم ترحيلهم قبل سنوات، جعلتهم خارج الأولويات. كما أن بعض الحالات وجدت بتحريض من أولياء الأمور يلقنون أطفالهم مبادئ التسول والمسكنة ليخطفوا اللقمة المستعصية من " فم السبع". أطفال يعيشون حياة تشرد مقنعة، يقضون سواد يومهم بدون مراقبة أو متابعة أو رعاية أسرية، معرضين لكل الأخطار والاحتمالات، بما فيها الاستغلال الجنسي الذي يذهب ضحيته كل يوم عدد من الأطفال الذين يعيشون واقع الإهمال الاجتماعي، فلا آباؤهم تخلوا عنهم نهائيا ولا هم رعوهم بشكل كامل. شيئا فشيئا يتكاثر عدد هؤلاء الأطفال الذين يستطيبون ثمار التشرد، حرية بلا حدود، نقود، سجائر، مخدرات... ليتحول الأمر إلى اذمان لا تنفع معه بعد ذلك أي قوة أو سلطة ردع وضبط . ويتحول التشرد المقنع والمؤقت إلى نهائي وكامل. في الأسبوع الفائت، بينما كان احد الفرنسيين المقيمين بشكل دائم بمدينة الصويرة يتنزه قرب محطة النقل قبالة برج باب مراكش، فوجئ بطفلين يقتربان منه عارضين عليه لحظات متعة جنسية، مقابل أن يدفع المبلغ الذي يريد. كانت صدمة الرجل كبيرة لدرجة انه عاد أدراجه مسرعا إلى بيته في حالة هيجان غير طبيعية لا زالت تتملكه كلما بدا يسرد وقائع الموقف الذي يبقى نتيجة حتمية للاستغلال الجنسي لفئة من الأطفال ، يعيشون بين أحضان المجتمع وعلى هامشه.