بعد تلك الأعوام الدراسية الخطيرة، انتفخ رأسي وصرت طاووسا بلا ريش. اعتقدت أنني إذا ما قرّرت أن ألملم حقائبي وأعود إلى البلاد، لاشك أن زلزالا سوف يقلب الحياة الثقافية المغربية رأسا على عقب، تماما كما انقلبت الحياة السياسية في المغرب سنة 1995 عندما عاد الزعيم محمد الفقيه البصري بعد سنوات من النفي. وإذا ما أرادت جماعة من الأصدقاء الاحتفاء بعودتي في مسرح محمد الخامس، لن أكون متكبّرا وأرفض... هذا طبعا، إذا ما قبلت الرجوع أصلا ! معظم باعة الورد المتجولين في باريس من أصول هندية. يحملون باقة ملوّنة ويجوبون الأحياء السياحية والمقاهي والعلب الليلية. يتصيّد بائع الورد ضحاياه بمهارة مدهشة. كل رجل يرافق امرأة هو زبون محتمل. لا يهمّ إذا ما كانت المرأة أخته أو أمه أو جدته. المشكلة أنهم يلحّون عليك بشكل يحرجك. يحرّك كبرياءك فتمسك الوردة لتضعها في يد صديقتك. عندها تبدأ المزايدات: إذا أعطيته أورو يطلب اثنين. إذا أعطيته اثنين يطلب ثلاثة... وهكذا. الأوغاد. بوردة واحدة يضعون الرجل بين الأشواك ويشرعون في ابتزازه. لأنهم يدركون جيّدا أن كرمه محط اختبار أمام صديقته. أحيانا تصل بهم الوقاحة حدّ عرض باقاتهم على شابين يتجولان معا، يمدّ نحوهما الوردة ونظرة ماكرة في عينيه. تلك طريقتهم، على ما يبدو، في الانتقام من «الآخرين» الذين يتمتعون بوقتهم في المقاهي والمطاعم والشوارع السياحية. في الخامسة وثلاث وعشرين دقيقة بالضبط، أركب القطار B من محطة أنطوني في اتجاه أولناي- ّسو- بوا. الوجوه نفسها ترافقني كل صباح. والتعب نفسه يمرح فوق هذه الوجوه. أسطو على أربعة مقاعد فارغة وأتمدّد. في السادسة صباحا، تجدني في بذلتي الزرقاء بقفّازاتي وقبّعتي ونظارتي الشمسية، مدججا بمكنسة وكيس بلاستيكي أسود، جاهزا لمطاردة نفايات المحطة حتى الساعة الواحدة بعد الزوال، موعد انصرافي... بعد شهرين كاملين من الكنس والاستيقاظ المبكر والنوم فوق مقاعد القطار والاستماع إلى أحاديث العمّال السوريالية، تمكنت من جمع مبلغ محترم. لكنني بدّدته في أسبوعين. تخيّلتني يابانيا في باريس فاستعرت عدسة تصوير ورحت أتجول بين مآثر العاصمة... ثم وجدتني من جديد على الرصيف. في السنة الموالية انتفضت. قلت إنني لم أجئ إلى هنا لكي أهدي للتشرد سنوات أخرى من عمري. لذلك قررت أن أخصّص وقتي كله للدراسة. الدبلوم الذي شرعت في تهييئه كان يستدعي حضورا يوميا وأسفارا مستمرة. اقترضت مالا كي لا تغرق بي المركب قبل الوصول إلى نهاية السنة. الدراسة متعبة، محاضرات طوال اليوم. من التاسعة صباحا حتى السادسة والنصف مساء. جبل هائل من الدروس والواجبات. وستيفانيت، مديرتنا الجديدة، تقطّب جبينها باستمرار. تبدو شريرة كمعلمة أطفال في رسوم متحركة. يكتمل المشهد عندما يسقط المطر غزيرا ونكون في إحدى الخرجات الدراسية وهي تتقدمنا بمعطفها الشتوي الطويل وبخطاها الصارمة شاهرة مطريتها السوداء، بينما نحن وراءها نتعثر في الوحل، تبللنا السماء مثل تلاميذ أيتام. ستيفانيت طيّبة في حقيقة الأمر. تشبه ملكة «بلاد العجائب» كما تخيّلها لويس كارول، لا تكفّ عن الشتم والتهديد لأتفه الأسباب، لكنها لا تنفذ تهديداتها أبدا. كان عليّ أن أظل يقظا طوال العام لكي لا أجد نفسي مطرودا من الفصل، كان عليّ أن أتدبر أمري... أخيرا، بعد شهور من الكدّ والدروس والشتائم، حصلت على دبلوم التخرج، شهادة ثمينة عليها توقيع رئيس جامعة السوربون... دبلوم رهيب من جامعة رهيبة ومن مديرة رهيبة! بعد تلك الأعوام الدراسية الخطيرة، انتفخ رأسي وصرت طاووسا بلا ريش. اعتقدت أنني إذا ما قرّرت أن ألملم حقائبي وأعود إلى البلاد، لاشك أن زلزالا سوف يقلب الحياة الثقافية المغربية رأسا على عقب، تماما كما انقلبت الحياة السياسية في المغرب سنة 1995 عندما عاد الزعيم محمد الفقيه البصري بعد سنوات من النفي. وإذا ما أرادت جماعة من الأصدقاء الاحتفاء بعودتي في مسرح محمد الخامس، لن أكون متكبّرا وأرفض... هذا طبعا، إذا ما قبلت الرجوع أصلا ! قبلت الرجوع ولم يحتفل بي أحد. بعد شهور من الصعود والهبوط في مكاتب المسؤولين، وبعد شهور من الهواتف والمقاهي والمواعيد المخلوفة، اكتشفت أن الدبلوم الذي أحمل في محفظتي كقنبلة ذرية لا يخيف أحدا في المغرب. انتهيت بأن تبوّلت على الشهادة المرعبة وارتحت. شعرت كما لو أنني أستيقظ من كابوس طويل. لكنّني لن أذهب أمام البرلمان لأعتصم كي يشمت فيّ الأوغاد. هذه البلاد التي أمدّ لها خدّي لكي أقبّلها فتصفعني ليست بلادي. إنها «بلادهم». سوف أعود إلى باريس...