بعت كل أغراضي، إلا حقيبة من الفرو وملاءة وشرشفاً وقميصين وحذاء، ورحلت عن بيتي 2/1 كان محمد خير الدين في الرابعة والعشرين وقت أن أصدر روايته الأولى «أكادير»، التي نركب ههنا مغامرة ترجمتها لقراء العربية. رواية تحكي قصة موظف ترسله مؤسسة الضمان الاجتماعي إلى المدينة المنكوبة بزلزال 1960 ليجمع ملفات بالسكان المنكوبين. لكن تلك القصة فيها لا تعدو أن تكون مجرد ذريعة لبناء كتابة شذَرية متمردة على أعراف الكتابة السردية، فإذا «أكادير» قد جاءت نصاً مفرداً بصيغة الجمع؛ فهو يهز هزاً بنية السرد الروائي، بل يطيح بها ولا يبقي لها على قائمة، حتى أن إدموند عمران المالح عَدًّ هذه الرواية بأنها «لا تنبئ بميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية فحسب، بل تنبئ كذلك عن ميلاد استثنائي لشاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية كبيرة». وقد توجت رواية «أكادير» بجائزة فريدة كذلك هي «Les enfants terribles» لمؤسسها جون كوكتو. وهي لذلك كله وغيره – استعادة صاحبها إلى مهاده اللغوي مثلاً – تستحق هذه المحاولة في الترجمة ضمن مشروع لنقل أدب خير الدين إلى العربية قطعنا فيه أربع ترجمات، والبقية تأتي. -22- المدرسة، حسن، المدرسة كانت تتكون من أربع بنايات بعلو خمسة عشر متراً على هيأة مستطيلاً في الوسط، تلك كانت ساحة المدرسة، الفصول مرصوصة ومتساوية المساحة، وتوجد فصول في الأسفل وفي الطابق الأول، الذين يمضون دائماً إلى الطابق الأول يكونون يكبرونني، كنت أحدث نفسي، إنهم وصلوا، وكنت أنتظر بدوري اليوم الذي سيقال لي فيه، اصعد هذا الدرج، لكنني كنت أحب الفصل حيث كنت، فقد كانت له ثلاث نوافذ، نوافذ يمكنني منها أن أرى شجرة عظيمة تتحرك في البعيد ومرور فلاحات وبقرات، كنت أحب الفلاحات والبقرات، السماء أيضاً، بيد أن السماء تبدلت، فما عادت السماء كما تركتها، إن السماء التي في ذاكرتي ما هي السماء نفسها، فهي رمادية، قذرة، كريهة، قدرية، بشعة، إنها خرقة حقيقية، إن كل ما احتفظت به من الماضي مفرط البشاعة، كان في حياة فاصل، سور، مركز حدودي، حراس بلهٌ وفاسدون يتوقفون إلى ما لانهاية، وقد بدأت أخافهم، أخاف منها، وبدأت أقول لنفسي ها هو الوحش الحقيقي، سيخلق لك غير قليل من الشياطين الصغار ستظل تسحبك في كل مكان، رأيت كيف يسقط الرجال من غير مسبقات سيئة، فمن أعلى نفوسهم يتدحرجون، صوب الأسفل القذر للفساد والبراز، مع أنه فريد من نوعه، البراز، وشيئاً فشيئاً بدأت أكرهه، وأما الآن فما عدت أهتم، صرت أهزأ كثيراً من التعذيب الذي نزل به، لقد فصلته عني، وجعلته بمنأى عني، بالنسبة إليَّ حياتي ليس فيها حتى إحدى وعشرين، فهي لا تزيد عن تسع عشرة، لكن يمكنني الآن أن أقول عنها شيئاً، الآن وقد صرت لا أشعر عنها حتى ولا بالندم، الآن حيث ما عاد لها وجود، إلا على هيأة رجات بين الفينة والأخرى، واهتزازات، في النعاس، سواء حين تتكوم فيه أو حين تنهض منه، وتنطلق من جديد، معنفة إياي أنا المستقل عن حياتي، أيها الرفيق تعال هنا، فهي تخنخن، ثم كمثل بنية صغيرتي كما في الماضي، وتمارس الجنس ليس معي فعضوي كان لا يزال صغيراً، تمجن وهي خانبة، وتخز به مهبلها، وتبلله لا كما تفعل مومس المواخير، وهي لا تفتأ تحاول أن تدخله فيها، حتى أين أقول؟ إنه لن يمضي أبعد من نفسه، مدغدغاً خصيتي، وعانتي، والزغب الصغير الذي يكسوني، ناظراً في ثقب السرة إن كنت لففت فيها قضيبي، صارخاً أن يزول ويمحي، يسقط كتلة جامدة، ضعيفة، وفجأة يصير معفراً، ثم لا يعود منه شيء، كذا هي حياتي، من نعاس، من أسود فطري، لاشيء مني خارج العالم نفسه، لاشيء لأجل السيد الراشد نفسه، العامل في خدمة السادة الماكرين، الغارقين في عطر الممثلات، ولذلك أجريت فصلاً في حياتي، سآخذ منذ الآن أرميها شيئاً فشيئاً، أسبح، أتزعنف، لا أتلقى بعد أمراً من أحد، سأصطنع لي حياة مستقلة في مكان آخر بعيدا عن هنا وسط الملتمسين، لا حياة ناسك، أو حياة نبتة، أو حياة إنسان، بل حياة لا تنطبق عليها صفة بعينها كما قبل أو أشبه، تماماً كمثل شخص ليس له وجود، حيوان أعيد اكتشافه، تنعكس صورته على بركة بما يقع عليها من أشعة الشمس بكل بساطة، فهو يرعى، ويتبرز، ويتبول كثيراً، حيوان قد أعيد إلى جلده الذي استعاد شعره، انصرف، لست لست جديراً بأن تكون على شاكلتنا، ليس في إفريقيا غير المتخلفين، والبدائيين، وقطط الضيون العظيمة، وأنهار النيجر، والكتبان الرملية، والغرابات للعين ودعك الدماغ، وجلود ليس لأجلي أنا منحسة، ومسوخ، وعواقب إشعاعية، وتجارب، بعوض الحمى الصفراء، وعيارات، وأمراض البريبري، وترانزيستورات، وخنادق، ومفازات، ومتاحف متحف إفريقيا؟ ما عدت أطيق حياتي الآن وكيف تسير، يحسن بي أن أرمي بها في صندوق للقمامة، وبذا أفلحت في التخلص منها، رفضت كل عروض العمل المقترحة عليَّ، وبعت كل أغراضي، إلا حقيبة من الفرو، وملاءة، وشرشفاً، وقميصين وحذاء، ورحلت عن بيتي، كنت مسروراً أن تحررت نهائياً، قضيت الليلة فوق عشب بليل، أيقظني قرع أجراس في الصباح، فسرت أتسكع في الأحياء الفقيرة من المدينة، قلبت في فضلات كثيرة بحثاً عن كسرة خبز أو قناني فارغة لأبيعها فقد كنت لا أزال بحاجة إلى نقود، سأستقل أول حافلة وجهتها الجنوب، وفي نهاية الأمر سرقت من مدبرة حافظةَ نقودها، وبفضل ذلك أنا الآن في مأمن، لم أقتصر على الاستقرار بين أهل القرية، بل مضيت عاقداً العزم حتى البراري، في بلد جدي وجد جدي، وجده، توقفت هنالك لأتقرى المكان، لم يكذب جدي أن قال إنه قد سمع من يتكلم في هذا المكان وأنه قد كان المنطلق لجنسنا، هناك وجدت عظام خراف وكلاب قديمة، وبقايا أسوار تملؤها الصدوع، وقد اندفن في الرمل نصفها، فهذا يعني أن حضارتنا قد بلغت ههنا الأوج، بقايا فراديس قديمة، وجذوع أشجار متفتتة، ورغوة مصفرة على هيأة دوائر عند سافلة الأسوار، والجد ملتصق برجل.