إن التاريخ ليس له وجود. لقد لفِّق باتباع ترتيب زمني صحيح نسبياً. فأبرز بعض الأحداث. فسمي ذلك تاريخاً 2/1 كان محمد خير الدين في الرابعة والعشرين وقت أن أصدر روايته الأولى «أكادير»، التي نركب ههنا مغامرة ترجمتها لقراء العربية. رواية تحكي قصة موظف ترسله مؤسسة الضمان الاجتماعي إلى المدينة المنكوبة بزلزال 1960 ليجمع ملفات بالسكان المنكوبين. لكن تلك القصة فيها لا تعدو أن تكون مجرد ذريعة لبناء كتابة شذَرية متمردة على أعراف الكتابة السردية، فإذا «أكادير» قد جاءت نصاً مفرداً بصيغة الجمع؛ فهو يهز هزاً بنية السرد الروائي، بل يطيح بها ولا يبقي لها على قائمة، حتى أن إدموند عمران المالح عَدًّ هذه الرواية بأنها «لا تنبئ بميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية فحسب، بل تنبئ كذلك عن ميلاد استثنائي لشاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية كبيرة». وقد توجت رواية «أكادير» بجائزة فريدة كذلك هي «Les enfants terribles» لمؤسسها جون كوكتو. وهي لذلك كله وغيره – استعادة صاحبها إلى مهاده اللغوي مثلاً – تستحق هذه المحاولة في الترجمة ضمن مشروع لنقل أدب خير الدين إلى العربية قطعنا فيه أربع ترجمات، والبقية تأتي. -15- بيتي من جديد. تغطي حيطانه بقع طويلة من حبر أسود. أقول لكم إنني لم أتزحزح من هذا المكان. لا أعرف البتة كيف وقع ما وقع. ماذا ذهبت أصنع عند الملوك؟ الحقيقة أنني لامعرفة لي بالتاريخ. فلامعرفة لي بتاريخي ولا بتاريخ بلدي. ربما يكون لي تاريخ. لا أعرف. من الممكن أن يكون لي تاريخ، يخصني. وهذه المدينة كذلك ينبغي أن يكون لها تاريخ. أقرب شبهاً بتاريخي. وإذن، فأنا أقول لكم إن التاريخ ليس له وجود. لقد لفِّق باتباع ترتيب زمني صحيح نسبياً. فأبرز بعض الأحداث. فسمي ذلك تاريخاً. من المؤكد أنهم قد أحكموا صنعه. لكنهم أخطأوا بشأن الأمور التي جمعوها على هذه الصورة. فهي لا تمت إلى بعضها بصلة. يشعر المرء بالدفء. هل بإضاعته تاريخه؟ لا يمكن للمرء ألا يتصور له تاريخاً. كيفما كان. سأحرص إذن على أن أمتثل. بدأت أضيق درعاً بتذبذبي. ومع ذلك فهو لا يشعرني بالخوف. فهل تُراني ولدتُ؟ نعم ولدت، إذن فأنا أحيا، إذن فأنا هو الذي ولدتُ. منذ متى؟ في سنة تسع وثلاثين. حسب ما قيل لي. فهل صحيح أنني ولدت؟ وما معنى أن يولد المرء؟ إن «ولد» أصلها فعل ثلاثي. صفعة حقيقية. «ولد» إن في حرف اللام شيئاً صادماً. فكأنه يطردك من الهاوية، ويداك أمامك. لكنه شيء يمضي وينقضي. لا، أنا ما رأيت نفسي أولد. أليس كذلك؟ إني موجود، وهذا كل ما هو أنا. كبرت مثل الجميع، ومثلما تكبر حتى الدواب، ولم يكن في ذلك ما يثير أسى المحيطين بي. لقد بقوا على فتورهم. واحد كنت أحبه. ذاك جدي. لقد مات دون أن أدري لم كنت أكن به المحبة. وما زلت أحمله في قلبي. هو الوحيد الذي أحبني فعلاً. كان يقاسمني قهو ته. نصفاً نصفاً. كنت أتناولها في كؤوس صغيرة سميكة. كانت كؤوساً مضلعة؛ فكانت تعكس ألواناً... عندما أكون في المطبخ... لا تتصوروا مطبخاً كما هو المطبخ عندكم... كانت الشمس تنفذ من كوة دائرية، فتكون شعاعاً مستطيلاً ملؤه غبار أزرق وأصفر، كنت أحب جدي، كان مختلفاً عن أبي، كان قصيراً، أحدب... وهو ما لم أكن أطيقه... كان الصبية لا يفتأون يكلمونني فيه، فكنت أتعارك، لكنني كنت أتبين في ثرثرة الكبار تلميحات تزيد بشاعة شخص جدي... لم تكن له لحية، كانت جدتي المتوفاة هي الأخرى تعتبره حكيماً ورجلاً مستقيماً ليس له مثيل، أأكون أحببته بسبب حذبته؟ كانت جدتي تقول إنه لم يعرف قط كيف يمسك ببندقية بالطريقة الصحيحة، لكنه لم يكن يخاف الموت، لم يعرف أن يقتل، فلم يذبح قط خروفاً، كان شخص آخر يتولى خروف العيد، فكنا نعطيه الكرش والكبد والرأس، لكن في خلال المجاعة الكبرى لم يكن لدينا خروف ولا ذرة، ولا يمكنك أن تعرف إلى أي حد هزلت، فقد كنت على وشك أن أضع أباك، كان جدك يلبث ساكتاً، وقد يذهب أحياناً ليلقي نظرة من إحدى تلك الكوى (كان يشير لي إلى سور الحجارة للسطح الذي يطل على الخارج، لا على الشارع)، وكان كثيراً ما يقول إنه يود لو يوقف الاقتتال الذي كان يقسم القرية إلى عشيرتين متعاديتين لكن المتقاتلين كانوا يأتون ليطلبوا منه المشورة فيعلنون اقتناعهم بها... لم أكن أتصور جداً من غير قسوة ولم تكن أمي تودني لكني كنت أبكي إذا ما قيل في حقها كلام فاحش ما أن أعود من المسجد حتى تحدجني بنظرة صارمة ثم تدير لي ظهرها أبي لم يكن هناك آه كم كنت أحبه كأسطورة كنت أقول لنفسي إنه هو الذي يأتيتي بالحلويات وبالصبية التي تملأ علي ليالي وتثير في الرعشات صديقتي الأولى كنت أعبدها أيضاً ومن خلالها هي كنت أحب أبي الغائب لكنه حين يأتي كان يفتح حقيبة خاصة ويفرغها تواً من كل محتوياتها التي هي علب كبيرة كان يناولني إياها تباعاً كنت أحب أبي وألواح الشوكولاتة التي كان يأتيني بها من هنالك كنت أتطلع إلى مرافقته في السفر لكني كنت متخوفاً من الذهاب بعيداً جداً كان العالم هو في هذا المكان حيث أعيش بصورة منتظمة كان خرذوناً فراشة نجمة ما أن يخيم الظلام كان ذلك الحرف الميت المسجل في السماء والسادر في ضلاله كان باب حديقة تقصدها الأرواح الجديدة للنباتات والحيوانات العظيمة بالنسبة لهذه الأرض فيما قيل لي وراء الجبل كان يعني لدي الموت العنيف للأطفال العاقلين.