أحببناه. عبد الرؤوف. كان يضحكنا. يدخل البهجة إلى النفوس الحزانى. داع صيته حتى إن نوعا من القماش كان يجوب الأسواق الشعبية تحت اسم ثوب عبد الرؤوف. أصبح الثوب موضة تتباهى بها النساء. وحدث أن كان في جولة – الحديث عن عبد الرؤوف وفرقته – وحدث أن وعدني والدي بأخذي إلى السهرة التي سيحييها الكوميدي المفضل لدي. ابتهجت. لم أكن وحدي من يحلم برؤية عبد الرؤوف على خشبة سينما الدرب. ذهبت أنا والوالد. كان الطابور طويلا. وأسر تنتظر دورها. مثلا هذا الرجل وزوجته وأطفاله الثمانية. يبدو مزهوا وهو يأخذ كل من بالبيت إلى السهرة. عيون الأطفال تشع فرحا.الأسرة فقيرة يشي بذلك هندامها. والأسرة متحضرة تشي بذلك نظافة الهندام وحضورها بكاملها. كان الزحف نحو الشباك رحلة والوصول حلما. سأقص على زملائي في المدرسة ما سأرى. بعضهم سيبتهج معي وبعضهم سيتميز من الغيظ. كم أحب أن أرى حسد العاجز يبرق في عيني هذا البعض. عندما أكبر سأصبح صحفيا وأحاور عبد الرؤوف. أكشف للناس سر هذه الشخصية اللامسبوق إليها. من أين استقاها؟ وكيف بلورها حتى جعل منها هويته. لا أحد يعرف اسمه الحقيقي من الذين يشاهدونه بلهفة ولا واحدة من اللائي يرتدين ثيابا من قماش عبد الرؤوف. عبد الرؤوف أصبح ظلا لعبد الرؤوف. لا أحد يعرف عبد الرحيم التونسي. الطابور. أمامنا الآن فقط الرجل وأسرته. هل سبق لقلبك أن دق في طابور؟ إذا حدث فقد جربت إحساسي وأنا على مبعدة من حلم ظل بعيدا زمنا أخرج الرجل محفظته وتحدث إلى أمينة صندوق عبد الرؤوف.. قالت المرأة كلاما لم أسمعه. اختفت ابتسامة الرجل. بحث في جيوبه عن شيء كاليأس. تنهد. قال أصغر أبنائه لا تقل لي إننا سنعود إلى البيت دون أن نشاهد السهرة.. تبين أن الرجل أخطأ في العد وأن ما معه من نقود لا يكفي للسماح لأسرته بكاملها بمشاهدة العرض. هل رأيتم رجلا وقورا يتلعثم؟ كان والدي يرقب المشهد بنوع من الاهتمام لم أعهده فيه. رأيته بعين الحالم يحشر يده في جيب سترته ويخرج ورقة مالية ثم يدعها تسقط. أقسم لكم أنه تركها تسقط عمدا وعن سبق إصرار. سقطت الورقة عند قدم الرجل. ماذا سيحدث الآن؟ هل سينحني الوالد على الورقة ويعيدها إلى جيب سترته أم هل سيحتفظ بها في يده ليؤدي ثمن التذكرتين .. واحدة لي وواحدة له..؟ لم ينحن الوالد. ولكنه أثار انتباه الرجل الذي انخطف لونه وكأن على رأسه الطير. الرجل حدق في والدي ولم يفهم الوالد: - لقد سقطت هذه الورقة من جيبك ..التقطها الرجل لم يجب.. صمت قليلا تحت تأثير الدهشة. ثم فهم. انحنى على الورقة. التقطها. وانفرجت أساريره. ورأيت عيني الرجل تتبللان. حاول أن يتكلم. لم يجد صوتا. أطلق الأطفال صيحة فرح والوالد يقتني التذاكر للجميع. التفت إلي والدي وهمس: لا عليك، سنشاهد عبد الرؤوف في عرض قادم. سآخذك إليه ولو كان في أقصى المدينة. أنا الذي انخطف لوني لحظتها. جذبني من يدي. انحنى علي وهمس: سيأتي يوم تفهم فيه ما فعلنا الآن أنت وأنا.. تقدم الرجل وأسرته نحو مدخل القاعة. التفت نحونا ورآنا نغادر. توقف للحظة قبل أن تبتلعه القاعة وبحركة من رأسه قال الكثير.