ارتأى الفنان زكرياء القفز، في فتوة تجربته التشكيلية، أن يتبنى موقع الطائر الأسطوري الذي ينبعث من رماده، مراهنا منذ البداية على تقديم أعمال بصرية إيحائية ومجددة. فخارج البنيات المسكوكة والقوالب التعبيرية الجاهزة، استطاع هذا الفنان أن يخترق عدة مسالك تشكيلية تتوزع بين التشخيص التسجيلي والتجريد التعبيري، منتصرا لأحاسيسه الداخلية ولقيمه الفردانية. من هذا المنظور، تغدو لوحاته مرايا راصدة ومتفاعلة مع مرجعياتها المتعددة الغارقة في الرموز، والعلامات، والوحدات المشهدية ذات السجلات الواقعية والتخييلية في الآن ذاته. إن هذه الفسحة الممتدة بين هاجس الكتابة التشكيلية والتخييل هي المدخل العام لتأمل عوالم زكرياء القفز، ومحاولة القبض على جوهرها الأيقوني المنفلت باستمرار. لقد أدرك، شأنه شأن عدد نوعي من الفنانين العارفين مثله، بأن التخييل ملكة تعبيرية وهمزة وصل بين العدم والوجود، والمرئي واللامرئي، وكأنه في حضرة الشيخ محيي الدين بن عربي الذي أفاض واستفاض في حديثه عن البرزخ. يسافر بنا زكرياء القفز عبر مدارج اللون والشكل والعلامة، طارقا أبواب التأويل التي تعيد ترجمة الأشياء والكائنات في قالب أسلوبي يتدرج من عالم المحسوسات العينية إلى عالم الانطباعات البصرية، والإيحاءات التجريدية المتعالية على السياقات المحدودة. إن هذا التدرج الأسلوبي هو الذي شكل أفق لوحاته التعبيرية بامتياز. فهو بمثابة مرآة كبرى تتراءى من خلالها فضاءات الواقع والحلم معا. بتلقائية وجرأة، ينزاح هذا الفنان عن دائرة المعلوم والجاهز في اتجاه المجهول والغرابة. ها هنا، تصبح كل لوحة ذاتا متعددة تمد جسورا تفاعلية بلغات متباينة ظل الايحاء سيد سيماتها التعبيرية. فمن زخم الذاكرة، تطالعنا تجربة زكرياء كلغة خالصة متجردة من كل نزعة رومانسية، وخلفية طوباوية. من ثمة، يخيل إلي أنه يختزل رؤيته للعالم المحيط به عبر التكثيف، والاقتصاد، والتبئير، ومحاورة النصوص البصرية العالمية. كل لوحة هي عين على الحياة، وذاكرة موشومة، ومثقلة بصور الواقع وأحواله. كل لوحة أيضا، تأتينا من عوالم أخرى، أقصد من جغرافيات أخرى تتخذ من التخييل والتركيب عنوانها البارز وبؤرتها البصرية. تستدرجنا لوحات هذا الفنان المهووس بسلطة البحث والتجريب إلى لعبة الشكل التي تحدث عنها ، بعمق، بول كلي، واعتبرها رهان كل لغة تشكيلية جديرة بهذا التوصيف. إنها تنقل عدوى أسئلتها المفتوحة إلينا كقراء مفترضين أوفعليين. كما أنها تعلمنا حب الحياة، وهوس الافتتان بتفاصيلها الصغيرة، وبهمومها الكبرى، لأنها بكل بساطة أكثر صفاء ونفوذا. ترمز كل لوحات زكرياء القفز الحديثة إلى الأشياء ولا تسمها لأنها تحتفي بالمدلولات لا بالدوال. إن الواقع بالنسبة لها هو المجهول واللامرئي. فإذا كان ألان روب غرييه يرى أن الرواية بحث عن واقع لن يوجد إلا بعد الانتهاء من الكتابة، فهذا الفنان يرى بأن التشكيل البصري بحث عن واقع لن يوجد إلا بعد الانتهاء من إنجاز اللوحة. ولعمري، هذا ما تفوق زكريا في مقاربته من خلال فيض لوحاته التعبيرية التي «جاءت إليه» كما جاءت الكتابة إلى أبرز المؤلفين الذين تحدثوا عن أنفسهم وعن الآخرين من منظور عميق. يستشف المتأمل في أعمال زكرياء القفز إيقاعا لونيا يستمد مداه من الشكل المتشذر «fragmentaire» الذي يتجاوز الأبعاد الخطية للوحة، معتمدا التقطيع باعتباره فنا يخول للمبدع الولوج إلى عمق الأشياء وتخليص الإبداع من الإنشائية كما عبر عن ذلك الروائي العالمي ميلان كونديرا. في هذا الصدد، ينتشي المشاهد بتلقائية اللوحات المنجزة، وينساق مع بلاغاتها الاستعارية، لأنها من أبرز المداخل التي تسعفه في سبر أغوارها. لقد طوع زكرياء القفز العلامة، ومن خلالها طوع الزمن الداخلي للوحة في ضوء لغة بصرية شفافة وشاعرية في الآن ذاته. الحال أن كل مفردة لونية أوشكلية تعمق الإحساس من زاوية التلقي، بجمالية التركيبة بكل محمولاتها الضمنية أوالصريحة، على سبيل التأويل. داخل كل لوحة، يقف المشاهد، أيضا، عند عدة لوحات متناظمة في سياق من الوحدات البصرية والسردية الكبرى على نحو يوحي بالتشاكل والتشابك. إن هذا التناص البصري هو الذي يؤلف نوعا من التدفق الدينامي في بنية اللوحة، ويضفي عليها كثيرا من الغنى والعمق. هكذا، تتأسس لعبة الشكل على نظام الترميز باعتباره تركيبا ونحوا بصريين يحاول الفنان سبكهما عبر مسالك المونولوج الاستذكاري (تعبير دوريت كوهن) والانتقاء الذهني. يحق لنا أن نتحدث، في هذا السياق، عن الهوية البصرية لأعمال الفنان زكرياء القفز التي تنهض كتأويل تفاعلي لمسار العلامات والرموز في تماهيها مع مسار الكائنات والأشياء. فهي إذن، صياغة جديدة لموقفه من الحياة والوجود ذي البعد التخييلي. آمن زكرياء القفز بأن التسجيل الواقعي المباشر للأشياء لا يرصد حقيقتها الباطنية. فهو لا يرغب في صك وثيقة اجتماعية بقدر ما يرغب في صياغة وثيقة إبداعية تؤرخ لأزمنة فنه المركب والمشروط بعنصري التجربة والتعبير. إنه يصر على النظر إلى العالم من خلال بلاغة اللون والشكل. ألا يصرح بأن حبه الجم للتشكيل هو الذي أغواه بالاستمرار في البوح البصري؟ هكذا، جاءت أعماله التشكيلية مفعمة بالحياة حتى الثمالة (على عكس الطرح الأفلاطوني الذي يفصل الفن عن الحياة) : أعمال فنان رؤياوي يخترق المسافات، واللحظات، مقتنعا بأن هناك مقامات خلافية بين الشيء وإدراكه. في هذا الإطار، يخل العمل التشكيلي بأفق انتظارنا، ويزج بنا في بحور الحيرة والتيه، فهو يقارب عدة عوالم إنسانية، ويخوض في كثير من الصيغ التعبيرية، والتصورات الخاصة للتشكيل وللتلقي. تتضمن تجرية زكرياء القفز تأملا عاما في الحياة والوجود معا بناء على معالجة بصرية محكمة ورصينة تتأسس على التلميح، والإيحاء والاستعارة. إن هذا الاشتغال الواعي على اللغة والتقنية من حيث الأسلوب البصري هو الذي يسم تجربة هذا الفنان، ويضمن لها شروط النشوء والارتقاء. على غرار الشاعر ريلكه، تراه يسلم نفسه للاندفاع المتسامي، ويعيش في التوق والتطلع سابحا في فضاء أنوار التشكيل المتدفقة. في بحثه الدؤوب عن الفرادة أخاله يردد مع الشاعر إدغار ألن بو : منذ الصبا لم أكن أشبه الآخرين، لم أكن أنظر كما كانوا ينظرون. هذا في ملتي واعتقادي ما جعل زكرياء القفز صاحب تجربة إبداعية متميزة في مسار الفن المغربي المعاصر.