يدافع الفنان والناقد محمد البندوري في هذا الحوار عن حتمية ارتباط الفن والإبداع عموما ببيئته وبالاخلاق والقيم التي تؤطر فعل المجتمع ككل، مؤكدا في حواره هذا مع «التجديد» عن شذوذ وتفاهة الإنتاجات التي لا تجعل من محيطها وقيم وأخلاق مجتمعها أرضية للإبداع تشكيلا وتعبيرا وتشخيصا، البندوري يسترسل بالقول إن استحضار الجانب القيمي ليرقى حتما بالفن إلى أسمى المراتب في المنظومة الفنية العالمية. محاورنا يرد أيضا على دعاة غياب الفن النظيف بالقول إن «المخزون الفني هو نتاج عمليات إبداعية ملتصقة بمجموعة من القيم والموروثات الحضارية والثوابت المقدسة، وهي كلها تشكل في عمقها نسيجا ثقافيا لكل أمة من الأمم، لها أدوار ترشيدية وتوجيهية». ● ماذا تعنون بالفن الراقي المعتمد على القيم والأخلاق؟ ❍ إن الالتزام بالضوابط القيمية والتحلي بالمكارم الأخلاقية، تجنب الفنان السقوط في براثن العشوائية، بل وتجعله أكثر تنظيما وصدقا ودقة في التعبير، وإن ارتباطه بموروثه الثقافي الصالح وانتهاله من حضارته المبنية على الأسس السليمة، وانتقائه للمواضيع الهادفة، فضلا عن الاستعمالات التقنية الموفقة، كل ذلك يضفي صبغة حضارية وجمالية على الفن ويسمو به إلى مصاف الرقي والتحضر، بعيدا عما يسمى في الظرف الآني ب»الطيش الفني» أو الانزياح عن المسلك التعبيري القويم، إلى عشوائية الرؤية الفنية واتخاذ مواضيع ساقطة أداة للتعبير الساقط المنحرف، وهو ما تخلى عنه رواد الفن في الأمم المتحضرة منذ أمد بعيد، إن للأخلاق مؤدى وبصمة في الفن الراقي لدى كل الأمم، وإن استحضار الجانب القيمي ليرقى حتما بالفن إلى أسمى المراتب في المنظومة الفنية العالمية. ● هل يمكن فصل الفن عن محيطه القيمي والثقافي؟ وماردكم على مقولة عدم وجود فن نظيف وآخر رديء؟ ❍ قالوا قديما إن الشاعر ابن بيئته، وأقول إن ما ينطبق على الشاعر ينطبق أيضا على الفنان المبدع، فهو ينطلق من بيئته، فالمخزون الفني هو نتاج عمليات إبداعية ملتصقة بمجموعة من القيم والموروثات الحضارية والثوابت المقدسة، وهي كلها تشكل في عمقها نسيجا ثقافيا لكل أمة من الأمم، لها أدوار ترشيدية وتوجيهية وتأثيرات على مستويات عدة، منها ما هو تربوي وما هو فني وما هو تثقيفي... لذلك وغيره، فإن الفن هو وليد البيئة والمحيط القيمي والثقافي.إن الذين يروجون لمقولات حرية الفن المطلقة، لايفتأون يخلطون الحابل بالنابل، بغية إفساد المنطق الفني المبني على الصرح السليم، وعلى القيم الفاضلة، فهو تعبير سامي وأخلاقي، قام ويقوم بأدوار تفيد البشرية على شتى المستويات منها العلمية الهندسية ومنها الأخلاقية ومنها الاقتصادية، لكن للأسف بين الحين والفين تظهر بعض الظواهر الشاذة التي تسقط في أوحال الهمجية والشذوذ مما يفصح فعلا عن خروج هذا الخارج من فضيلة الفن النظيف إلى الفن الرديء الذي لا معنى له ولا طعم ولا حرمة. ● ما هي قراءتكم لبعض الأعمال المعروضة في معرض مراكش الآن؟ ❍ سأختار بعض النماذج، فالتجربة الفنية للفنان التشكيلي عبد الفتاح بلالي، تنبني على أسلوب متوهج يتربع كرسي الفرادة سواء على المستوى الجمالي أو على مستوى المادة التشكيلية أو على مستوى الموضوع المتسم بالقيمية عموما، فلوحاته تحمل المادة التعبيرية. ينسج في فضائها خيوطا علائقية يكثف بها الفضاء تتراءى بين كتل كثيرة من الرموز والعلامات والألوان، لكنه يسعى من خلال عملية بنائه لكل تلك المواد إلى إيجاد صيغ من الانسجام بين مختلف العناصر المكونة للوحة، وهو لا يقتصر في عملية البناء المترابطة والمتصلة بتراكمات من الرموز والعلامات والألوان على نسج تلك العلاقات وخلق روابط بين المواد وإنما يعمل على خلق مساحات محجبة وهو بذلك يعبر عن قيم الحب والترابط والتماسك والانسجام بطرق غير مباشرة تفصح عنها أحاسيسه ومشاعره وكل ما يخالج دواخله فلوحاته تعج بالهواجس التي تفنطق عنها الكشوفات النقدية من خلال طرقه المختلفة في عملية التوظيف التي تغطي مجمل مساحات الفضاء. وإن مجال التبيين يظهر التعبيرات القيمية ويستجلي المكنونات الغائصة في عوالم ذات المبدع، فرصد الألوان الزرقاء والدوائر الحلزونية وأنصاف الدوائر، وتفكيك الرموز، أدوات تستجلي بعضا من قوة التعبير لدى الفنان التشكيلي عبد الفتاح بلالي، فتتبدى اللوحة لديه ناطقة بأحاسيس ومشاعر عميقة الدلالات، وتظهر فيها تعبيرات قيمية تلعب فيها الألوان دورا جوهريا سواء من حيث الطلاء الكلي باللون المنفرد أو بالطلاء الجزئي من خلال صبغ الخيوط والخطوط بألوان متنوعة ومختلفة، تحرك الفضاء وتزلزله بكل الصيغ الفنية، التي اللون الأزرق أحيانا والأسود حينا أخر أداة نسيجية، وأفقا تعبيريا وتصوريا، يقدم مواد تشكيلية وأخرى تعبيرية تنطق بالعديد من المعاني المحسوسة. أما لوحات الفنانة التشكيلية ليلى الديوري فتفصح عن عدة مقومات تخص القيم الدينية السمحاء، وترتبط بالتراث العربي المغربي الأصيل بمقوماته الفكرية والثقافية، وتتخذ من التشكيل عنصرا لنسج الرمزية والدلالات الإيحائية لتسخير الفضاء اللوني برؤى متعددة المناحي. وتأتي هذه السيولة الفنية لدى ليلى في نطاق تجربة فنية انطباعية قويمة وسديدة، تجربة تضطلع بتقاطعات تتسم بالجدلية أثناء طبع مكونات الحياة لديها بطابع الهدوء والسكينة حينا وبطابع الحركة حينا آخر، وذلك في وضع تشكيلي يأخذ بلب المتلقي ويفضي إلى إنجاز لمسة جديدة في المنجز التشكيلي الآني. إنه أسلوب يفترش القيم كبناء عميق الدلالة، ويتخذ من فضاء اللوحة مادة بعيدة الرؤية تتوقف على مسافات تضخم الفراغ وتعمق من رمزية اللون وأبعاده، بإلهام فني عميق الدلالة، وبعلامات لونية فريدة، وأشكال منسجمة، تتوقف على مسافات تحدها أشكال تعبيرية مغلقة، واستنادا إلى قاعدة النقد التشكيلي، فإن أعمال ليلى الديوري التشكيلية الإبداعية تتبدى فيها اجتهادات تقارب ماهية العمل بالمادة والنسيج العملي التشكيلي الصرف، وهي المتمرسة في العمل الفني المنجز على مواد مختلفة، لذلك تقودها التجربة إلى إظهار إنتاجها الفني مثقلا بالإيحاءات والعلامات الرمزية الدالة على أشياء معينة، بل وعلى سيميولوجيتها الخاصة بها. إنه منهج لدى الفنانة التشكيلية ليلى تنسج من خلاله أسلوبا تعبيريا خاصا، وفريدا يمتح من الهوية الإسلامية العربية المغربية الأصيلة مقوماتها الأساسية، وتننفذه بخيوط إبداعية صرفة نحو الابتكار بتدفق اللون الجميل، وهو أمر أساسي ومهم غاية الأهمية، مما يعطي اللوحة أبعادا زمانية ومكانية تتيح الفرصة لوجود سلسلة من العلاقات التحاورية بين مختلف الألوان والرموز والعلامات، والعلاقات الوجدانية بين العمل والمتلقي، وتقود إلى تحقيق مقاربة بين مختلف العناصر المكونة للعمل، وأيضا تحقيق التوازن بين المفارقات المبنية على السكون والحركة والذي تلعب فيه نفسية المبدعة ليلى دورا محوريا للوصول إلى دائرة تفاعل المتلقي. وهي طريقة تبنيها على مجموعة من الآليات كالتنغيم والتباين والتكامل والانسجام، لتشيء اللوحة وفق أبعاد دينية عميقة، ومعرفية محسوسة. ويشكل العمل الفني أحد أهم الأساليب التشكيلية الواقعية القيمية التي يستند عليها الفنان التشكيلي سعيد أيت بوزيد، فلا يمكن أن يبني فضاءه الناعم إلا باعتماد الواقع التعبيري كمادة واقعية أولا، ثم كتعبير أيقوني ثانية، ليفصح عن خلجاته ولواعجه وشعوره بطريقة فنية مغايرة، وبسحر تشكيلي متعدد الرؤى والدلالات، وبعلامات لونية، وأشكال تعبيرية فصيحة، تتوقف على مناحي إنسانية وأخلاقية وروحية دافئة، فالمعاناة ومكابدة كل أشكال القهر وعناء الحياة والهموم اليومية وقساوة الواقع. ● ما هي العناصر المشتركة أو الخيط الناظم لكل هذه الأعمال المشاركة في هذا المعرض؟ ❍ كلها تعبيرات مصيرية حتمية تنبع بصدق من نفسية المبدع بعد أن ينسجها إلهامه واجتهاداته في قوالب تعبيرية رائدة. وفي نطاق العمل النقدي التشكيلي، فإن أعمال سعيد أيت بوزيد الإبداعية وإن تبدت فيها البساطة، و كل مناحي العطف والحنان والولفة، إلا أنها في أحايين كثيرة تقارب ماهية العمل الفني بالمادة البصرية التي تشكلها عين المتلقي، وهو ما يصنع انسجاما وتوليفا بينه وبين شعور وأحاسيس المتلقين. وبالرغم من واقعية العمل لدى سعيد أيت بوزيد، إلا أن انفعالاته الإبداعية تجعل العمل مثقلا بالإيحاءات والرمزية التي تنطق بأشياء أخرى منبثقة من خوالجه الداخلية وهواجسه النفسية. ولذلك وغيره، فأعماله التشكيلية تنفذ مباشرة إلى أعماق المتلقي. كما أن الموضوعات التي تشتملها، تتوافر فيها الرؤيا الموضوعية للحياة وتتبدى فيها تجليات الواقع العنائي. إن هذا التوافر يجعل من اللوحة إطارا تسجيليا بطبائع تعبيرية، وبسياقات مختلفة، لكنها تصب كلها في مجموعة من القيم التي يسعى سعيد أيت بوزيد لأن تبقى وتبقى... ولا تندثر منها الاحساس بلآخرين ومساعدة الغير والإيثار ووو. مما يجعل من لوحاته أداة تفاعلية بأبعاد حقيقية ملموسة من الواقع. وهذا ليس بالأمر اليسير، فعملية بناء الفضاء على أنقاض الواقع يدفع بالفنان أيت بوزيد لأن يبرز المادة التشكيلية في شكل وجودي يتعمد إشراك الحس الشعوري والعنصر البصري للمتلقي، مما يكلفه الكثير من الدقة والمهارة والتوظيف التقني البديع. العبث ... إبداع بلا قيم ولا أخلاق العبث عبارة قد لا يجد المرأ بديلا لها في وصف ما باث يقدم عليه عدد من بنات جلدتنا من إنتاج لن نختلف في كونه إبداعا لكنه بالتأكيد إبداع سيئ ومسيئ، خاصة وأنه اليوم، وفي تحول خطير نحوالتهجم على قيم وأخلاق المغاربة، بلغ هذا العبث خشبة المسرح بعد أن كان مقصورا على بعض العلب الليلية المغلقة أو عددا من الأعمال السينمائية الرديئة، والتي يبقى التوجه لها اختيارا. أما أن نتحدث عن خشبة المسارح ومنصات دور الشباب وفضاءات المدارس والجامعات فإننا أمام انحراف لفضاء عرف بقضاياه الوطنية والسياسية على مر التاريخ. فإذا كانت أولى المسرحيات بالمغرب مطلع الثلاثينيات حول المجاهد صلاح الدين الأيوبي وقدمت باللغة العربية وبعده مسرحيات ملتحمة ومعبرة عن تطلع وطن مستعمر إلى الحرية والكرامة واضطر الاستعمار لمصادرة العديد منها والتدخل في نصوص البعض الآخر، فها نحن اليوم نشهد على أعمال تقدمها لطيفة ونعيمة وفاطمة وليلى... غير أنها لا تعدوا أن تكون استمرارا لفكر عولمي استعماري يروم تدمير ما تبقى من البنيات الثقافية وإفراغ قيم المغاربة من محتواها وشغل الرأي العام بأعمال مستفزة عن قضاياه الكبرى اليوم بما يسرع من وثيرة بناء الوطن الذي يحلم به. إن الإبداع خارج قيم المجتمع وأخلاقه أو حتى بعض القيم الكونية والإنسانية لا يمكن إلا أن يسمى فوضى وعبث قد يجعلنا نتساءل عن حاجتنا للفن والإبداع أصلا إن كان هو التعري والمجون والابتذال، ويكفينا أن نترك كل واحد يقول ويفعل ما يشاء وقت ما شاء ومع من شاء وأين ما شاء دون حاجة إلى قوالب فنية أو لوحات تعبيرية، لأن المسرح في هذه الحالة سيصبح تراهات والسينما سخافة والتشكيل خزعبلات. إن الانضباط لقيم وقانون وأخلاق المجتمع تعد أحد علامات الرشد والمسؤولية وهو ما عبر عنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عندما تحدث في البند 3من المادة29 عن كون الفرد يخضع في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها لتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. و المغاربة على مستوى كل وثائقهم القانونية وأولها الدستور واخيتارهم السياسي من خلال الانتخابات ومدونة الأسرة وغيرها من القوانين قد حسموا اختياراتهم. كما يضيف هذا الإعلان في مادته 30 بأنه «ليس فيه نص يجوز تأويله على أنه يخول للدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه» كما أن هذا القانون شأنه شأن كل الشرائع الأخرى يضمن لكل الأوطان خصوصيتها وحقها في الاختلاف. إن «الجرأة» التي يتم الافتراء عليها هي جرأة غارقة في الجبن لأنه تقرن فقط بالاجتهاد في تعرية الجسد، و والتنكيل بقيم بالقيم الأساسية للمجتمع والتنكر لها. وما يدعيه البعض من عكس المسرح للواقع هو في الحقيقة عمليةانتقاء واضحة ومفضوحة وتوجيه مسبق. أليس من الواقع مظاهر الفساد والرشوة والحكرة والظلم والتسلط ما لو سئل عنه الحجر لا نطق به؟ أم أن أعين البعض أصابها العمى. إن هذه الأعمال وما شاكلها لا تخرج عن دائرة الاغتراب وبحث سبل التمكين لمشاريع ليست ذات صلة بقيم وأعراف هذا المجتمع وهذه أحد أولى مؤشرات فشلها. إننا حيال إحدى أوجه التوظيف السياسي للإبداع وبدعم مالي سخي عبر كثيرون عن استعدادهم للاستفادة منه ولعب هذا الدور غير المشرف في التهكم على مثل وقيم المغاربة. إن المسرح والإبداع عموما لم يكن يوما معزولا عن قضايا الشعوب والأوطان التواقة إلى مجمع قوامه العدل والحرية والكرامة وإن ما وصلنا إليه من غياب للإبداع والمبدعين جعل الساحة خالية لظهور الانتفاعيون والمستغلين.