سبق لنا أن تناولنا الأزمتين المالية والسياسية في السلطة الفلسطينية، وربطنا بينهما، منطلقين من أن حل الأزمة المالية لن يكون، إطلاقا، بمعزل عن حل الأزمة السياسية، والتي هي في الأساس، أزمة المشروع السياسي الذي يتبناه ويعمل تحت سقفه الفريق السياسي المتربع على سدة السلطة الفلسطينية في الضفة. الأزمة عادت لتطل برأسها، هذه المرة، بطريقة أكثر حدة، مهددة بانهيار اقتصادي عام، في السلطة، تتولد عنه انهيارات في مؤسساتها، وفي قدرتها على إدارة الشأن العام، وأداء الدور في الجانبين الخدمي والأمني. ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي دفع حاكم البنك المركزي الإسرائيلي، ستانلي فيشر، للتدخل لدى صندوق النقد الدولي، لتسليف السلطة الفلسطينية ما يمكنها من حل ولو مؤقت لأزمتها المالية. علما أن الحل الجذري لهذه الأزمة، لن يكون إلا بإقامة اقتصاد وطني، تكون له قاعدته الزراعية، والصناعية وميادين أخرى كالسياحة وغيرها. لكننا لاحظنا، في هذا السياق، أن الإطلالات الموسمية، للحديث عن ضرورة بناء اقتصاد وطني فلسطيني، باتت في الضفة، نادرة وشبه غائبة. حتى الحملة الوطنية لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، والتي توفرت لها تغطية إعلامية، فاقت حدود هذه الحملة، بدأت تتبخر، ولم نعد نسمع لها صوتا، أو عنها خبرا. بل صدم الرأي العام الفلسطيني بتلك التقارير التي تحدثت، ليس عن «تسلل» منتجات المستوطنات إلى السوق الفلسطينية، بل عن استثمارات فلسطينية في المستوطنات الإسرائيلية. وإذا ما ربطنا بين نفوذ أصحاب هذه الاستثمارات، وإذا ما أدركنا حقيقة العلاقة بين أصحاب المال في الضفة وبين أصحاب السلطة، أدركنا في نهاية المطاف لماذا تبخرت الحملة الوطنية لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، وأدركنا، في الوقت نفسه، لماذا لم تتطور هذه الحملة، لتصبح حملة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية نفسها، والاستعاضة عنها ببدائل فلسطينية، أو عربية أو حتى أجنبية. المهم ألا يستفيد الاقتصاد الإسرائيلي من السوق الاستهلاكية الفلسطينية. هذا كله تبخر، لأن سياقه السياسي، كمقاومة شعبية ذات ثمن، يتعارض مع السياق السياسي الذي يتبناه الفريق المتربع على سدة السلطة الفلسطينية. وهكذا لا يكون مفاجئا لنا، ونحن نتابع الحركة السياسية اليومية لفريق السلطة، أن يلجأ رئيس حكومة رام الله، سلام فياض إلى فيشر، رئيس البنك المركزي الإسرائيلي، يطلب إليه التدخل للمساعدة في حل الأزمة المالية للسلطة، مكرسا، بهذه الخطوة، حالة التبعية التي يعيشها الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، ومكرسا، بذلك أيضا، ضعف الإرادة السياسية لفريق السلطة للتصدي لهذه التبعية وشق الطريق نحو بناء اقتصاد وطني. فهذا الطريق مكلف لأصحاب رؤوس الأموال، ومكلف لأصحاب الامتيازات، ومكلف للذين يراهنون على بقاء السلطة الفلسطينية على ما هي عليه، في البنية والوظيفة والامتيازات. لذلك تم التراجع عن هذا الطريق، وصار الحل بيد فيشر. *** الأزمة السياسية تزداد هي الأخرى تفاقما، وتأخذ هذه المرة مظهرا جديدا، يبرز فيه مدى هشاشة الحالة السياسية لفريق السلطة، وكيف أنه يهتز بشدة أمام أبسط التطورات والأحداث. مثالها اقتراح موفاز أن يلتقي الرئيس عباس، وكان واضحا أن موفاز لا يحمل حلا للأزمة السياسية. فقراروقف الاستيطان، تلبية لمتطلبات المفاوضات، ليس من صلاحياته. وكان واضحا أن موفاز، يرغب في لقاء عباس، في إطار التنافس بينه وبين نتنياهو، وفي إطار محاولته إعادة تلميع موقعه في الحكومة [الذي سرعان ما بهت بعد تعيينه نائبا لنتنياهو] وكذلك تلميع موقعه على رأس كاديما [الذي اختفت أخباره عن صفحات الصحف الإسرائيلية، وخسر دوره كمعارضة ولم يربح من دوره في الحكومة]. - أحاط بهذه الدعوة أمران، كانا لافتين للنظر. * الأمر الأول أن نتنياهو أرسل لعباس يطلب إليه ألا يلتقي موفاز، ولأسباب إسرائيلية داخلية يدركها عباس جيدا. ولسان حال نتنياهو يقول للرئيس عباس: إذا كنت على استعداد للالتقاء بمسؤول إسرائيلي، فماذا لا يكون اللقاء معي أنا رئيس الحكومة. فأنا صاحب القرار. وأنا القادر على حلحلة الأزمة. وباستطاعتي، إن شئت، أن أقدم لك «جائزة ترضية» تبرر لك هذا اللقاء في عيون معارضيك وخصومك السياسيين، فنكون أنا، وأنت من الرابحين. أنا نتنياهو يضيف رئيس الحكومة أكون قد قطعت الطريق على موفاز ومنعه من تلميع نفسه على حسابي، حتى ولو كان نائبا لي في الحكومة. فالخصومة السياسية بيني وبينه لم تزل قائمة، خاصة وأنه سيكون خصمي الأول في أية انتخابات تشريعية مبكرة. كما أكون، في الوقت نفسه، قد كرست أمام الجميع أن «القرار الفلسطيني» عندي أنا وليس عند أحد غيري. أما أنت كرئيس للسلطة فبالإمكان تعزيز موقعك من خلال إطلاق دفعة من الأسرى، نختارهم نحن، بما يمكنك من تبرير لقائك معي، حتى في ظل تعطل المفاوضات. وربما نجحنا، إن نحن التقينا، في حلحة العلاقة، بما يوفر لنا فرصة لقناة، هي دون المفاوضات، وأعلى من القطيعة وبحيث نبقي باب التشاور مفتوحا بيننا. بطبيعة الحال، فإن عرض نتنياهو، في حسابات فريق السلطة أفضل من عرض موفاز. لأنه يقدم، مقابل اللقاء الثنائي، «ثمنا» ما، ولن يكون مجانا، كما هو اللقاء مع موفاز. لكن مثل هذا «الثمن» سيكون أقل بكثير من الفائدة التي سوف يجنيها نتنياهو، الذي يصبح بإمكانه أن ينفي أمام «الرباعية» خاصة واشنطن أن تكون المفاوضات في حالة جمود. فالقناة التي قد يرضى بها الرئيس عباس، ستكون شكلا من أشكال المفاوضات، وإن كانت في ظاهرها تحمل إسما آخر. * أما الأمر الثاني الذي أحاط باقتراح لقاء عباس موفاز، فهو تلك الوحشية المفرطة التي قمعت بها السلطة الفلسطينية المحتجين على اللقاء حين تجمعوا عند دوار المنارة في رام الله. هذا القمع لا يمكن أن يكون مفهوما للمراقبين إلا باعتباره محاولة من السلطة أن تبعث برسالة إلى من يهمه الأمر أن الأجهزة الأمنية متماسكة، وأن بإمكانها أن تمنع أي تحرك، وأن الأزمة السياسية في السلطة لم تضعفها أمام معارضيها. إنها حلة من النزق السياسي، ومحاولة مفضوحة لتنفيس الأزمة الداخلية والتعبير عنها بأساليب وحشية. في كل الأحوال، تعرضت ممارسات الأجهزة لنقد وإدانة من أطراف كثيرة، حتى أن بعض الصحف الإسرائيلية للأسف حاولت أن تقارن بين «ديمقراطية» النظام السياسي في إسرائيل في تعامله مع الحراك الشعبي تحت سقف المطالب الاجتماعية، وبين «استبداد» السلطة الفلسطينية ووحشيتها المفرطة في التعامل مع متظاهرين، مسالمين، تجمعوا في مدينتهم، للإعلان عن رأي سياسي خاص بهم، وهو الحد الأدنى من الحقوق التي يفترض أن يتمتع بها المواطن الفلسطيني، بموجب القانون الأساسي للسلطة، ومشروع الدستور الذي تتبناه مؤسسات منظمة التحرير. *** إذن، حل الأزمة المالية، كما بدت، بيد ستانلي فيشر، رئيس البنك المركزي الإسرائيلي الذي توسط لدى صندوق النقد الدولي، لتأمين قرض مالي للسلطة الفلسطينية لدفع مرتبات موظفيها والعاملين في أجهزتها. وحلحة الأزمة السياسية، كما بدت، بيد نتنياهو، الذي يدير اللعبة من ديوانه. فيفتح الباب أمام لقاء موفاز عباس، ويغلقه، ويقدم العروض والإغراءات. وهو ما يدفعنا بقوة لنتساءل: ما هي ماهية هذا «المشروع الوطني» الفلسطيني الذي تكمن مفاتيح أزماته بيد العدو الإسرائيلي؟ ومتى سيحين موعد المراجعة السياسية، للتخلي عن هذه الإستراتيجية البائسة لصالح إستراتيجية بديلة، تضع كل الحلول، ومفاتيح الحلول بيد الشعب الفلسطيني ومقاومته؟.