كانوا أعضاء فاعلين ومؤثرين في تنظيم أسسته مجموعة من الجمعيات الطلابية المغربية بعد حصول المغرب على الاستقلال. تنظيم ابتدأ ببناء هياكله على أساس تمثيله للحركة الطلابية المغربية التي أرادته واجهة للدفاع عن مطالبها. لكنه ما لبث أن واجه مشكل التأرجح بين التيارات المتصارعة، ليمخر عباب يم صراعات أفقدته البوصلة التي كان يسير على هديها وصولا إلى الدفاع عن القضايا التي أسس في الأصل لحمل همومها. إنه الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي حاول كل من جهته جعله منظمة موازية وناطقة باسمه في الوسط الطلابي اعتبارا لمعطيات محيط دولي شكل فيه الطلبة القوة الأساسية للتغيير، ما أدى إلى انقسامات وصراعات عمودية وأفقية، وشد وجدب مع السلطة، توالت وتضخمت لتفقده التوازن وتضع في طريقه عقبات شلت محركه في محطة مؤتمره السابع عشر الذي علقت أشغاله في الرباط سنة 1981. بيد أن أهم إشكال واجهته الحركة الطلابية يبقى من دون شك هو تدبير التناقضات بين التيار الإصلاحي والتيار الجذري. وهي مرحلة من تاريخ الاتحاد الوطني لطلبة المغرب نحاول تسليط الضوء عليها، خلال شهر رمضان، عبر سرد حياة مناضلين بحزب التقدم والاشتراكية كانت حافلة بالعطاءات وبالتضحيات من أجل الشعب والوطن والحزب والطبقة الكادحة. نسافر في هذه الحلقات عبر مراحل الحياة الشخصية لكل من عبد الرحيم بنصر ومصطفى العلوي، بارتباط مع حياتهما النضالية سواء داخل الحزب أو داخل المنظمة الطلابية في محاولة للكشف عن خبايا ودوافع مواقف مؤثرة في حياة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، على اعتبار أن القرارات لا تتخذ خارج سياقاتها المباشرة وغير المباشرة. - 1 - كان عزيز بلال قادرا دوما على جعلي أفهم معنى الإمبريالية كبرت وترعرت بمدينة الجديدة التي كانت بحق مدينة ساحرة، صغيرة المساحة، تحيط بها المنتزهات والضيعات، ولا تبعد عنها البوادي كثيرا. لا أذكر ملامح والدي. فقد رحل إلى دار البقاء وأنا لم أبلغ بعد سن الرابعة. كفلتني والدتي وسهرت على تربيتي بمعية أختي نزهة، وأخوين لي هما محمد وعبد الحق. كان مصدر عيشنا الوحيد مداخيل سومة كراء منزل تركه الوالد ساعدتنا على ضمان الحد الأدنى للعيش مستورين في درب البركاوي بالمدينة القديمة ثم في مرحلة ثانية بساحة مولاي الحسن سي الضاوي. تكفلت والدتي بأعباء أسرتنا الصغيرة وقاست كثيرا من أجل تربيتنا ومتابعتنا لتعليمنا. كان جدي قاسم أبو الهول أول من رافقني إلى مسجد الحي الذي كان يسهر عليه فقيه ينادونه ب «الدمناتي». كان هذا الفقيه ملما حافظا للقرءان الكريم، ملما بعلوم الفقه وبقواعد اللغة. لم يقتصر تعليمه لي على حفظ القرءان فقط، بل تعداه إلى قواعد النحو. وهو ما مكنني من حفظ القرءان بأكمله واستظهاره مرتين «إخراج السلكة»، بالإضافة إلى إتقان القراءة والكتابة في سن مبكرة. كان هذا، بالنسبة لمحيطي سواء الأسري أو داخل الحي الذي أقطن فيه، إنجازا كبيرا يؤهلني لإمامة الصلاة ليلة القدر، ويمنحني حظوة لدى جدي الرجل المتدين والأنيق دائما، والذي كان يضرب به المثل في الشهامة والشجاعة، ويشار إلى إنجازاته خلال المعارك التي خاضتها فرنسا ضد ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وإلى شرف حصوله على ظهير من طرف جلالة المغفور له محمد الخامس. كان جدي يأخذني معه لأداء صلاة الفجر قبل أن نعرج معا على الزاوية التيجانية لقراءة رائعتي البوصيري «البردة» و»الهمزية «. وفي طريق العودة إلى المنزل، وكشكل من أشكال المكافأة، كان جدي يشتري لي «شفنجة» لتناول الفطور، وينصحني بالخلود للنوم إلى حدود العاشرة صباحا، موعد الالتحاق بمسيد الفقيه الدمناتي. بعد مرحلة المسيد، التحقت بمدرسة «التهذيب الابتدائية الحرة» التي كانت تدار تحت إشراف الحركة الوطنية، وخاصة بحزب الاستقلال الذي كان متواجدا بقوة داخل مدينة الجديدة. أسس هذه المدرسة سي قاسم الزهري، وفيها تابع إخوتي دراستهم الابتدائية. وبالمدرسة ذاتها كانت والدتي قد حصلت، سنة 1947، على شهادة الصدر الأعظم للتعليم الابتدائي الأصيل، بعد اجتيازها آنذاك للاختبار الكتابي والشفهي. كان العديد من التلاميذ من أبناء الجديدة، الذين سيصبحون فيما بعد أطرا عليا معروفة في دواليب الدولة، يقاسمون والدتي الأقسام ذاتها، وربما جاوروا مقاعدها في الفصل خلال سنوات الدراسة الابتدائية. وقد ذكرت لي، في أحاديثها الشيقة، أسماء من عائلة القادري وعائلة المسفري ومن العديد من أبناء العائلات المنتمية لحزب الاستقلال. في المدرسة ذاتها، قضيت أروع سنين الطفولة، تحت إشراف مؤطرين ومدرسات ومدرسين أكفاء أتذكر منهم اليوم مدير المؤسسة سي التازي، وسي محمد لحلو وهو أخ لمفضل لحلو الوزير السابق للسكنى، والأستاذ الجاحظي، والأستاذة رحمون زوجة العامل السابق الكراوي الذي كان أستاذا جامعيا في مادة الرياضيات. وفي نفس المدرسة تعلمت أسس التربية القويمة والتشبث بالقيم الوطنية الأصيلة والدفاع عن حقوق الشعب والوطن كدعامات سهلت فيما بعد تعاطفي مع حزب التحرر والاشتراكية والتحاقي فيما بعد به لكونه يحمل القيم نفسها ويدعو للاجتهاد والمثابرة مهما عظمت المعاناة. معاناة كان لوالدتي نصيب وافر منها، تقاسمتها معها بحكم أنني البكر من أجل ضمان العيش لإخوتي والتمدرس لنا جميعا. والواقع أن التفتح والوعي اللذين ميزا السيدة الوالدة والمستوى الثقافي والعلمي لخالي الحاصل على الإجازة بكلية ظهر المهراز بفاس، كان له أثره الواضح على قدرة تكييف مصاعب الحياة وسط مدينة صغيرة وفضاء تربوي سليم. طوال مرحلة الطفولة والمراهقة لم نكن نفكر مطلقا في الوجهة التي سنقضي فيها العطلة. كنا، طوال السنة، دائمي الالتصاق بالشاطئ المجاور لحينا.. نمرح ثارة ونسبح ثارة أخرى. كانت كرة القدم لعبتنا المفضلة، لا تفارقنا في دروب مدينتنا الصغيرة والجميلة والتي زادها بهاء المخطط المعماري الذي تركه ليوطي جمالا وروعة. لقد كادت مدينة الجديدة أن تصبح «دوفيل المغرب» كما كان يرغب هذا المقيم العام. ورغم حبي للكرة التي حملتني إلى اللعب لصغار وفتيان وشبان الدفاع الحسني الجديدي إلى جانب الشريف وبابا ونجوم كبار، لم أهمل دراستي التي تفوقت فيها بدليل حصولي الدائم على لوحات الشرف التي كانت المدرسة تمنحها للمتفوقين من التلاميذ، كما أنني لم أكن مشاغبا بالقدر الذي كان عليه إخوتي. وفي مرحلة الدراسة الثانوية، ستتغير طباعي نتيجة بداية تأثري بقيم اليسار والعدالة الاجتماعية التي كان يشيعها وسطي الأسري، خاصة خالي الذي كان مناضلا في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ارتقاء فكري مبكر انطلق وأنا ابن الرابعة عشر. فقد بدأت أنساق وراء دوافع خفية جعلتني دون شعور مني أقود تلاميذ ثانوية أبي شعيب الدكالي دفاعا عن المطالب التلاميذية. وهو ما جعل إدارة المؤسسة تقرر نقلي إلى ثانوية ابن خلدون التي واصلت فيها دراستي إلى غاية الحصول على شهادة الباكالوريا. لازمني شعور التمرد والسخط على بعض الأوضاع غير السوية، منددا ببعض السلوكات والممارسات التي لم أكن أستسيغها، متفاعلا مع الجو العام للإضرابات التي ميزت الساحة الوطنية آنذاك. فالطبقة العاملة كانت تقود، في إطار الاتحاد المغربي للشغل، كفاحات مريرة. وقوى اليسار كانت تناضل في إطار جو عام يميزه القمع. هذا الجو العام جعلني أثور بدوري على كل ما أراه حيفا، لكن والواقع أقول، كانت ثورة ينقصها التكوين والإدراك الرزين. فقد كنت أعبر عن حماسة شديدة دون أن أدرك أحيانا حدود وأبعاد وخلفيات ما أفعله.. وقد بدا هذا النقص يتضح لي شيئا فشيئا مع مواصلتي لنشاط الجمعية الثقافية لمدينة الجديدة. في هذا الفضاء تعرفت على مثقفين كبار ملتزمين على رأسهم بول باسكون الذي لا يستقيم الحديث عن السوسيولوجيا المغربية بدون الرجوع قصدا نحو المنجز الباسكوني. فمنذ انطلاقته الأولى نحو عوالم السوسيولوجيا وبول باسكون يقدم النموذج الحيوي للسوسيولوجيا التي تقطع مع التواطؤ والتلاعب، والتي يفترض فيها أن تكون منشغلة ب «الاجتماعي» إلى حد الامتلاء، لقد كان بول باسكون مسكونا بالبحث والتحليل لأشد الرموز والظواهر إرباكا وتعقيدا، ولم يكن في أي وقت من الأوقات ممارسا للعطالة السوسيولوجية أو مطمئنا للمقاربات الكسولة، لقد حرص دوما وإلى غاية رحيله اللغز الغامض والمثير في آن، على الانتصار لصوت السوسيولوجيا الميدانية التي تؤسس نظرياتها وتوجهاتها من التفاصيل الدقيقة لتضاريس المشهد المجتمعي. ولم تكن الفلسفة غائبة عن اهتماماتي ولاعن اهتمامات الجمعية الثقافية لمدينة الجديدة. وأذكر هنا فضل الأستاذ مغنية الذي دفعني لقراءة التاريخ الإنساني وللوقوف كثيرا على عطاء هيغل وكارل ماركس وإنغلز.. وعلى دور المثقف الملتزم الذي سأكتشفه تلقائيا في شخص الرفيق عزيز بلال الذي كانت شخصيته وأفكاره والتحامه بالجماهير وحمله لهمومها بوابة دخولي الحزب. تعرفت على عزيز بلال المفكر والاقتصادي والمناضل التقدمي من خلال دعوة الجمعية الثقافية له. وكان يلبي الدعوة بكل أريحية وتواضع، يشرح لنا أصعب النظريات بأسلوبه السهل الممتنع الشيق. ولعل أكثر ما كان يشدني إليه، براعته في التحليل وقدرته على القراءة الاستشرافية والانشغال بقضايا المجتمع، وبتطلعات الشعب إلى مستوى عيش أفضل. فرغم حداثة سني، وعدم تملكي للأدوات والمفاهيم الفكرية التي تسمح لي باستيعاب الإشكاليات المطروحة، كان عزيز بلال قادرا دوما على جعلي أفهم معنى الإمبريالية ومعنى الفرق بين التنمية والتخلف وما هو الدور الحقيقي للشركات متعددة الجنسيات ومعنى صراع الطبقات الاجتماعية.