في أبريل الماضي، مرت 78 سنة على مولد عالم الاجتماع المغربي بول باسكون، الذي كان نموذجا للعالِم الملتزم الملتصق بالحياة اليومية للناس، فهو أبرز العارفين بالعالم القروي في المغرب، وأحد أنشط الأساتذة الذين عرفتهم الجامعة المغربية، حيث سهر على تكوين العديد من الباحثين الذين كان لأغلبهم شأن كبير في مجال علم الاجتماع والعلوم السياسية.. لم ينفصل هذا العالم المغربي عن الناس.. فقد أبدى التزاما إنسانيا وسياسيا رفيعا ورثه عن والديه اللذين كلفتهما معارَضتُهما نظامَ المارشال بيتان، النفيَ والانفصال عن ابنهما فترة من الزمن، فقد أُبْعِد والده الذي كان مهندسا في الأشغال العمومية وشغوفا بالعالم القروي إلى «بوذنيب»، في الجنوب الشرقي للمغرب وأُجبِرت والدته على الإقامة في «ميدلت»، بينما مكث بول باسكون، الذي رأي النور بمدينة فاس سنة 1932، في مدرسة داخلية، إلى حين الإفراج عن والديه، بعد الإنزال الأمريكي في إفريقيا الشمالية. لم يرث بول باسكون عن والديه شغفهما بالعالم القروي فقط بل انطلق يستكشفه، لينال وهو لم يتجاوز ال17 من العمر جائزة «زليجة» عن بحث حول قوانين الماء في منطقتي «زير وغريس». ربط بول باسكون مصيره بالمغرب منذ نعومة أظافره، وهو ما حفَّزه على تعلم اللغة العربية، وحرص في دراسته لعلم الاجتماع على سلوك السبيل الذي يؤهله لتجاوز الإثنولوجيا الكولونيالية.. فقد آمن بأنه لا توجد ثمة معرفة خارج الميدان الذي يمنحه فرصة المعاينة المباشرة وجمع المعطيات، حتى يكون التحليل قريبا من الحقيقة السوسيولوجية.. وساعده هذا على بلورة العديد من أطروحاته التي ساهمت في تكرسه كرائد للسوسيولوجيا في المغرب، هو الذي أنجز رسالة الدكتوراه حول الحوز الذي عمل منسقا للدارسات حول تهيئته، قبل أن يصير مديرا ل«مكتب الحوز»، ودفعه انحيازه إلى العالم القروي إلى العمل على تأسيس معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة وإلى إحداث إدارة للتنمية القروية.. اهتم بكل تفاصيل العالم القروي وهوامشه، وآمن بأنه لا يمكن تغيير الأمور عندما نستسلم للرفاه، وكانت لديه قناعة راسخة بأن المغرب ليس بلدا فقيرا، حيث حرَّضه ذلك على السعي إلى المساهمة في بناء مغرب جديد وحداثيّ.. لكن الرجل الذي حمل المغرب في قلبه، واختار الجنسية المغربية في 1964 لم يَسْلَم من انتقاد من رأوا أنه يخرق الحدود بين التخصصات وأنكروا عليه التزامَه السياسي، بل إن منهم من كان يشير إلى جذوره الفرنسية.. لكن بول باسكون لم يكن يأبه إلى تلك الانتقادات «العادية» في مسار عالِم مثله، فمن شأن الرد على مناوئيه أن يصرفه عن انشغالاته العلمية التي كرس لها حياتَه.. غير أن ما كان يثيره هو لجوء البعض إلى التشكيك في ولائه للمغرب ومغربية العالم الذي نحت مصطلح المجتمع المركب الذي تتعايش فيه العديد من أنماط العيش والسلوك والثقافات المتناقضة، يستبطنها المجتمع وتصبح شرطَ وجوده في بعض الأحيان. في أبريل 1985، قضى بول باسكون في الصحراء الموريتانية، حيث كان ينجز مهمة لفائدة منظمة الزراعة والأغذية العالمية، بمعية صديقه أحمد عريف، عقب حادثة سير لم يُكْشَف عن ملابساتها، ليترك الكثير من أوراش البحث التي أطلقها مفتوحة، لكنه ألهم الكثيرين سُبُلَ البحث والالتزام والانفتاح على الهامش الذي تكون له الكلمة العليا في بعض الأحيان!...