المدينة الآسرة التي ما تفتأ تحرك السواكن والأسئلة الساعة تشير إلى العاشرة والنصف ليلا٬ وأفواج من المسافرين الذين وصلوا توا إلى مدينة وجدة تغادر المحطة الطرقية. وغير بعيد٬ تبدت منصة كبيرة يتحلق حولها جمهور غفير. صرخ المغني الذي كان يعتلي المنصة مرددا وهو مزهو بتجاوب الجماهير معه : «في خاطر اولاد المير علي». بدأت وفود المتفرجين تنساب من كل حدب وصوب٬ من حي المير علي٬ ومن الأحياء المجاورة لساحة ثالث مارس القريبة من المحطة الطرقية٬ وفي لحظة٬ ضاعت الأصوات وسط الموسيقى «المتطايرة» التي كسرت سكون ليالي الصيف الوجدية. قال مسافر باللجهة المحلية وهو يجر حقيبته وسط بقايا الحشود التي فضلت أن تتابع السهرة من بعيد «جينا مع الفيستيفال نيشان هذا العام». توقف الرجل وأمعن النظر في المنصة٬ التي صارت أكثر قربا٬ ثم أومأ إلى صديقه قائلا «هذا الشاب ابن الحي الذي كنت أسكنه. لقد درسنا معا في مرحلة الابتدائي». الناس في هذه المدينة يعرفون بعضهم بعضا٬ يكفي أن تدلي باسمك العائلي٬ «النكوة» كما يقول الوجديون٬ حتى يستظهر أحدهم٬ بكل أريحية٬ شجرة العائلة تنحدر منها منذ أن استقرت في المدينة. «ليس ذلك فضولا٬ ولكنها الحميمية»٬ يؤكد أحد أبناء المدينة العتيقة. ولأن «الجميع يعرف الجميع» فإن المعلومة سرعان ما تتناقلها الألسن. «بعض أفراد الجالية كيفوا مواعيد عطلهم مع هذه الفترة التي ينظم فيها مهرجان الراي الدولي»٬ يصرح محمد عمارة٬ رئيس جمعية وجدة فنون٬ منظمة المهرجان. في تلك الليلة٬ التي بدت فيه درجة حرارة الليل فيها قريبة من درجة حرارة النهار٬ لم ينقطع وقع الأقدام على الأرصفة والساحات. وجدة التي تنام باكرا تغيرت وتيرة الحياة فيها هذه الأيام وصار الناس يسهرون الليل . «المدينة هادئة والناس هنا طيبون٬ لا تشعر بالغربة في وجدة٬ هذا انطباعي منذ الزيارة الأولى»٬ يقول زائر للمدينة. بكل سهولة٬ ينسج الناس علاقات حميمية مع مدينة وجدة ذات القباب والصوامع الأثرية والممرات والأزقة القديمة والبوابات الضخمة التي تنتشلك٬ في غفلة منك٬ من اللحظة وتلقي بك في غياهب التاريخ. «لا مجال للانفلات من قبضة الذكرى والتاريخ»٬ يؤكد أستاذ جامعي. ويحكي فنانون ومثقفون زاروا مدينة وجدة هذا الصيف كيف أسرتهم المدينة. كل شيء فيها محرك للسواكن والأسئلة. «حين جئت إلى هنا٬ لم أفكر كثيرا في الطريقة الأنجع للتواصل مع الجماهير الوجدية»٬ يقول الفنان الجزائري عبد القادر سكتور٬ في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء. كان على سجيته مثلما كان عشاقه وانهدمت الحواجز لوحدها. ويقول الشاب بلال٬ الذي أقام دنيا الراي دون أن يقعدها٬ حين غنى خلال المهرجان عن الغربة والهم وحكاياتهما التي لا تنتهي «في وجدة أحس بأني في بيتي. أنا مغربي مقيم». هذه المدينة فيها «شيء لله»٬ كما في التعبير الدارج ذي الحمولة الصوفية الواضحة٬ يؤكد شيخ مسن يعشق زيارة أولياء المدينة وضواحيها. ومثلما تمر كل السويعات الجميلة مسرعة٬ لا تلوي على شيء٬ انقضت لحظات الاستمتاع وانتهى مهرجان الراي الدولي٬ غير أن المدينة لا تزال تشرع يديها تحضن كل القادمين من كل مكان. «هنا عبق التاريخ لمن أراد أن يتنشق. وهناك٬ غير بعيد٬ جمال الحاضر»٬ يضيف الأستاذ الجامعي. على الطريق إلى السعيدية (50 كلم عن وجدة)٬ سيارات وزحام. هذا موسم الهجرة إلى السعيدية قد بلغ أوانه. «كل الناس تستمتع هنا. قليل من المال يفي بالغرض»٬ يقول صاحب مطعم شعبي. تبدو السعيدية٬ التي يحج إليها الزوار من كل بقاع العالم كل صيف٬ كلوحة فنية متحركة تعرض صور الناس٬ من كل الأعمار والأعراق٬ حين يلتقي بعضهم ببعض ويتعرف بعضهم إلى بعض. «لذلك خلقنا. لا تنس ذلك»٬ يقول زائر وجدي يعشق ليالي السعيدية. ولليل٬ في السعيدية كما في وجدة٬ سحر خاص. ليالي المدن الصغرى أجمل من نهاراتها في العادة٬ مثلما يقولون. يسري السحر اللذيذ في الأوصال فيتجول الناس٬ مأخوذين٬ على «الكورنيش» إلى ساعات الصباح الأولى. «رحلات الذهاب والإياب بين وجدة والسعيدية لا تنقطع»٬ يؤكد أحد مغاربة العالم. ولأن التعب٬ في مثل هذه الحالات٬ راحة٬ فإن الكثيرين استمتعوا بالسفر اليومي. بين وجدة والسعيدية وتافوغالت وزكزل ورأس الماء٬ كانت الحركة دائبة لا تتوقف. يقول المحللون إن هذه الجهة باتت في قلب الفعل التنموي بالمغرب. صحيح. إذ «ليس من رأى كمن سمع» كما يقول المثل العربي.