قرب مدرسة محمد علي رزوق بالممر الساحلي الشهير المفضي إلى قصر الريسوني التاريخي بأصيلة٬ تنتصب جدارية يتوقف عندها العابرون طويلا. عناصرها حروف عربية تتحاور وتتجاور لتصنع المشهد العام.. «سفينة نوح» العربية التي تبحر وسط أمواج متلاطمة تهددها بالغرق. هو مشروع فني كبير٬ شاهد عبور الحروفي السوري خالد الساعي٬ الفنان المخلص لموعده الصيفي مع أصيلة٬ المدينة- الورشة والمدينة-الملهمة. الرجل الذي يعيش بين دمشق ودبي٬ عبر برؤيته وأدواته الخاصة عن واقع عربي ومأساة سورية مفتوحة على المجهول. عناصر اللوحة التشكيلية عند خالد ليست وجوها أو صورا بل حروفا أيقونية مرنة٬ خفيفة الحركة٬ تتجاوز وظيفتها الأصلية المتمثلة في إنتاج المعنى المعقول إلى تفجير مادة فنية بصرية. الحروفية٬ يقول الفنان السوري في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء٬ انتقال من مستوى فن الخط بطابعه الزخرفي الوصفي٬ إلى التجريدية التشكيلية التي تحلق في عوالم الجمال البصري. اختيار يفرض على الحروفي فتح إمكانيات الحركة والمرونة اللامتناهية أمام الحروف لتدخل في علاقات جديدة غير لغوية٬ وتشتبك مع عنصري اللون والفضاء لصنع متعة التفاعل الوجداني مع مادة تعبيرية تشكيلية. بالنسبة للساعي٬ الذي يراكم وهو في سن الثانية والأربعين نجاحا هاما خوله المشاركة في محافل فنية راقية عبر القارات٬ فإن الحروفية٬ أكثر من مجرد تجريب تشكيلي٬ تحيل إلى هوية فنية خصوصية بالنسبة للعالم العربي. «إنه ملعبنا الخاص الذي نعرضه للعالم٬ حاملا ذاكرة حضارية ثرية». يبدو خالد مؤمنا بقدرة هذه الشعبة الإبداعية على خوض غمار المنافسة الكونية بين التعبيرات الجمالية التشكيلية الأكثر حداثة. يذكر في هذا الصدد اهتمام المتحف البريطاني مؤخرا بعرض أعمال الحروفيين العرب٬ ثم يعرج على تجربة مباراة عالمية كبرى في ألمانيا٬ شارك فيها حروفيون لاتينيون وآسيويون وعرب٬ فكانت الصدارة فيها للفنانين العرب. بل إن تصنيفا آسيويا لأكثر عشرة فنانين نجاحا في القارة٬ ضم ثمانية فنانين عرب٬ من رواد الحروفية. إنه اعتراف دولي بمدار إبداعي خصوصي يتوسع نطاقه يوما بعد يوم. ثمة وعي متزايد بالقيمة الثقافية لمجال إبداعي يغني الهوية من داخل النسق الثقافي العربي٬ ومن شأن الجوائز التي تشجع المتفوقين في هذا الفن أن تدعم مسار تطور الحروفية التي يرى خالد الساعي أن أكثر تجاربها نضجا وتطورا يتبلور في المدرسة الشامية ثم المصرية فتجارب مميزة في تونس والمغرب٬ الذي يجل فيه روادا كبار من قبيل فريد بلكاهية والمهدي قطبي٬ الذين شكل الحرف عنصرا رئيسا في مشروعيهما الفنيين. أن يكون الفن في خدمة القضايا العادلة فذلك أمر بديهي في نظر خالد الساعي الذي لا يخفي معارضته للنظام السوري القائم٬ لكن المهمة محفوفة بالمخاطر والصعب. يتذكر فنانين من بني وطنه٬ دفعوا غاليا ثمن موقفهم السياسي٬ أشهرهم٬ وليس وحيدهم٬ فنان الكاريكاتير٬ علي فرزات الذي قطعت أصابعه انتقاما وترهيبا. لكن الفن بما هو حرية لا يمكن إلا أن يقف في صف الحرية. درس هذا المسكون بالحرف العربي فنون الخط في دمشق واسطنبول. طافت أعماله بلدانا عديدة ووجدت صدى لها في عواصم فنية كبرى٬ من قبيل مكسيكو٬ ومدريد وزوريخ ودبي وباريس وبوسطن وبيروت والكويت وغيرها. وحصل الساعي على جوائز رفيعة من بينالي الشارقة واسطنبول وروما وطهران. جوائز لا يتوقف عندها طويلا٬ لأنه منشغل دوما بالمحطة القادمة للقطار.