جلالة الملك يدعو المحكمة الدستورية المغربية لرفع التحدي القضائي ورسم المعالم القانونية للحقوق الدستورية الاقتصادية والثقافية والبيئية للأفراد والجماعات وجه جلالة الملك محمد السادس، رسالة سامية إلى المشاركين في المؤتمر السادس لجمعية المحاكم والمجالس الدستورية، التي تتقاسم استعمال اللغة الفرنسية، والذي انطلقت أشغاله، أمس الأربعاء بمراكش، تحت الرعاية السامية لجلالته، حول موضوع «المواطن والقضاء الدستوري». وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها عبد اللطيف المنوني مستشار جلالة الملك: «الحمد لله وحده٬ والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه. أصحاب المعالي رؤساء المحاكم والمجالس الدستورية٬ حضرات السيدات والسادة٬ إنه لمن دواعي الاعتزاز أن تحتضن المملكة المغربية أعمال المؤتمر السادس لجمعية المحاكم الدستورية التي تتقاسم استعمال اللغة الفرنسية٬ برعايتنا السامية٬ بمدينة مراكش٬ أرض الحوار والملتقيات الدولية الكبرى. ويطيب لنا٬ في البداية٬ أن نشيد بالأهداف النبيلة لجمعيتكم٬ ومساهمتها القيمة في نشر ثقافة سيادة القانون٬ عماد دولة الحق والمؤسسات٬ وفي النهوض بالعدالة الدستورية٬ باعتبارها التجسيد الأمثل لسمو الدستور. ومما يضفي على مؤتمركم أهمية خاصة٬ كونه ينعقد في ظل التحولات التي يعرفها القانون الدستوري المعاصر٬ والتطورات المؤسسية التي تشهدها العديد من بلدان منطقتنا٬ بمختلف انعكاساتها٬ وما يقترن بها من تبوئ القضاء الدستوري المكانة المتميزة في المنظومة الديمقراطية الحديثة٬ ليس فقط كأساس للتوازن بين السلطات الدستورية٬ وإنما باعتباره أيضا مرجعا لها ولحقوق المواطن في ظلها. ومن هذا المنطلق٬ تتجلى وجاهة اختياركم لموضوع «المواطن والقضاء الدستوري»٬ كمحور أساسي لأشغال مؤتمركم٬ اختيارا يجسد الالتزام القوي بجعل المواطن٬ بحقوقه وواجباته٬ وحرياته٬ ووجوب ضمان كرامته٬ مرجعا وغاية لعمل المؤسسات الدستورية. ولنا اليقين٬ لما هو مشهود للمشاركين في مؤتمركم من دراية قانونية وقضائية واسعة٬ ولما تحظى به المحاكم والمجالس الدستورية المنتمية لجمعيتكم من مصداقية واحترام٬ بحكم استقلاليتها وكفاءة وحنكة وتجرد أعضائها٬ بأن النقاش الدستوري البناء وما سيسفر عنه من خلاصات وجيهة٬ سيساهم في توضيح كافة الإشكاليات المرتبطة بالعلاقة العضوية بين المواطن والقضاء الدستوري٬ وما تطرحه من تحديات فقهية وقانونية٬ تسائل بإلحاح الوظائف الكلاسيكية للعدالة الدستورية٬ في ارتباطها بأسس النظم الديمقراطية المعاصرة٬ وفي مقدمتها مبادئ السيادة وفصل السلط والشرعية التمثيلية. أصحاب المعالي٬ حضرات السيدات والسادة٬ يصادف انعقاد مؤتمركم مرور سنة على إقرار دستور جديد للمملكة٬ بمضامين جد متقدمة٬ مؤسسة لنموذج دستوري مغربي متميز يشكل المواطن فيه صلب الأولويات والاهتمامات٬ عماده ترسيخ بناء دولة ديمقراطية حديثة٬ ترتكز على المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة للمؤسسات الوطنية والترابية٬ في ربط بين المسؤولية والمحاسبة٬ وذلك في إطار من التضامن والمساواة وتكافؤ الفرص. وفي هذا الصدد٬ فإن دستور المملكة الجديد٬ بموازاة مع ارتقائه بالمكانة المؤسسية للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتقويتها٬ في ظل فصلها وتوازنها واستقلالها٬ قد أقر ميثاقا للحقوق والحريات الأساسية بمختلف أجيالها٬ وذلك ضمن منظومة متكاملة لحقوق الإنسان٬ كما هو متعارف عليها عالميا. كما كرس الآليات الكفيلة بضمان حمايتها وممارستها الفعلية٬ وفي صدارتها تخويل المواطن حق اللجوء إلى المحكمة الدستورية٬ لإثارة عدم دستورية أي قانون من شأن تطبيقه على نزاع معروض على القضاء٬ أن يمس بحقوقه وحرياته الدستورية. ومن الأكيد أن هذا التطور يشكل دفعة قوية للقضاء الدستوري في بلادنا٬ رغم ما ينطوي عليه من تحديات متعددة٬ مؤسسية وفقهية٬ تجعل من تفاعل المواطن والقضاء الدستوري مقياسا حقيقيا لحركية المجتمع٬ ومدى تملكه لقانونه الأسمى٬ ورافعة قوية لترسيخ حقوق وواجبات المواطنة والديمقراطية الحقة. وبالنظر لكافة المضامين المتقدمة للدستور الجديد للمملكة٬ الذي أضحت ديباجته جزءا لا يتجزأ منه٬ وبارتقاء المجلس الدستوري إلى محكمة دستورية ذات اختصاصات واسعة٬ فإننا نتوخى توطيد دعائم المدرسة الدستورية المغربية٬ الحافلة بعطاء الفقهاء الدستوريين المغاربة٬ عن طريق انبثاق اجتهاد قضائي دستوري خلاق وطموح٬ غايته المثلى٬ تكريس سمو الدستور والتقيد بأحكامه٬ نصا وروحا. ولا يخفى على سديد نظركم أن تزايد الانتظارات التنموية للمجتمع٬ في ظل توالي الأزمات الاقتصادية والمالية العالمية يستدعي من المحكمة الدستورية المغربية٬ كما هو الحال بالنسبة لنظيراتها في جمعيتكم الموقرة٬ تعبئة كل طاقاتها من أجل رفع التحدي القضائي الأكبر لرسم المعالم القانونية والعملية الواضحة للحقوق الدستورية الاقتصادية والثقافية والبيئية للأفراد والجماعات. أصحاب المعالي٬ حضرات السيدات والسادة٬ إن القضاء الدستوري مدعو للانخراط في دينامية جديدة٬ ترتكز على مساهمة جميع الفعاليات القضائية والأكاديمية عن طريق استشعار طبيعة وظائفه المجتمعية والمؤسسية والتنموية الجديدة٬ في إطار معادلة لا تنفصل فيها التنمية عن الديمقراطية٬ وكذا عن طريق آليات عمله٬ لاسيما منها مناهج التأويل الدستوري السليم ٬بمبادئه وحدوده. وإننا نتطلع إلى أن تواصل جمعيتكم القيام بدورها الفاعل في إضاءة سبل الممارسة الدستورية والديمقراطية في مجتمعاتنا٬ والمساهمة في استشراف التحولات المستقبلية٬ الواعدة بانبثاق نموذج مؤسسي متجدد٬ سمته البارزة الديمقراطية الدستورية المواطنة. كما ندعو جمعيتكم لاستثمار طابعها التعددي٬ والتزامها الفاعل بالنهوض بالعدالة الدستورية٬ وما يتقاسمه أعضاؤها من قيم سامية٬ من أجل العمل على إرساء أرضية صلبة لحوار قضائي دستوري بناء يشكل بالنسبة لمجالسكم ومحاكمكم الدستورية٬ جسرا للتواصل والتلاقح الفقهي٬ وتبادل الخبرات والتجارب٬ والانفتاح على فضاءات لغوية جهوية ودولية أوسع٬ سواء كانت أكاديمية أو قضائية بجميع أنواعها دستورية كانت أم عادية. وبموازاة ذلك٬ فإننا ندعوكم للمزيد من توثيق روابط الصداقة والتعاون والشراكة بين مؤسساتكم٬ لاسيما من خلال توسيع مجال تقاسم الاجتهادات الدستورية المتميزة٬ والمساهمة الجماعية في الرفع من القدرات العلمية والمنهجية والإدارية لهيئاتكم. وإذ نعرب لجميع المشاركين في هذا المؤتمر الهام عن صادق ترحيبنا بكم في بلدكم الثاني٬ المغرب٬ متمنين لكم طيب المقام٬ فإننا نتطلع إلى مواصلة جمعيتكم لرسالتها النبيلة٬ داعين الله تعالى أن يكلل أشغالكم بكامل التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته».