شكل الخطاب الملكي لتاسع مارس2011 منعطفا تاريخيا بين عهدين، عهد العشرية الأولى من حكم محمد السادس تحت آخر دستور للعهد الحسني الذي سمح بتحديد بنية الدولة ومؤسساتها السياسية، وعهد ما بعد دستور فاتح يوليوز 2011 الذي أعاد النظر في ملامح بنية الدولة وجدد تركيبتها ومهام الجماعات الترابية للمملكة. وقد مهد خطاب 9 مارس لأهم معالم الإصلاح السياسي والمؤسساتي من فصل للسلط وتوضيح لاختصاصاتها وتقوية للأجهزة المنتخبة وتوضيح الأدوار والمسؤوليات بجانب التنصيص على منظومة إضافية تهم الحقوق والحريات العامة التي أتى بها الدستور الجديد. وإذا كان المغرب قد شرع بالفعل في مسلسل تغيير ديمقراطي هادئ من داخل المؤسسات، فالأمر يتعلق اليوم بالتفعيل الفعلي والصريح لمضامين الدستور الجديد وتنزيله بالشكل الصحيح حفاظا للمؤسسات الدستورية على انسجامها وتجانسها، فإن الجهوية تعتبر من صميم إصلاح بنية الدولة وطرق اشتغال المؤسسات وعلاقة السلط ببعضها ومراجعة نظام الغرفة الثانية بالبرلمان. ولقد مهد الدستور الجديد، من خلال أحكامه المتقدمة التي تعيد تنظيم الاختصاصات بين مختلف المؤسسات الدستورية، الطريق أمام إعادة تنظيم ديمقراطي للاختصاصات بين الدولة والجهات، مع تكريس المبادئ الأساسية للجهوية المغربية، والمتمثلة في الوحدة الوطنية والترابية، والتوازن والتضامن والممارسة الديمقراطية، وانتخاب مجالس الجهات عبر الاقتراع المباشر ونقل السلطات التنفيذية لهذه المجالس إلى رؤسائها. وفي هذا السياق، نقترح التداول حول أفكار تهم تنظيم الجماعات الترابية وأنماط إدارتها وتقوية آليات الحكامة في ظل مقتضيات الدستور الجديد: إن التفكير في إحداث «هيئة عليا» على شكل مجلس يتكون من ممثلي مختلف مستويات الجماعات الترابية للمملكة (الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات المحلية) التي تتنظم في جمعيات وتكون في علاقة مباشرة مع الحكومة. وتستشار في كل مشروع إصلاح يهم الجماعات الترابية ويكون له تأثير على ممارسة صلاحيات الجماعات المحلية.. أصبح أمرا ملحا. وسيكون لمجلس المستشارين (الغرفة الثانية للبرلمان) وظائف هامة في هذه البنية المحدثة، لتسهيل التواصل بين مختلف المتدخلين. يجب وضع «ميثاق للحكامة الترابية» ينبثق عن حوار وطني للجماعات الترابية بالمملكة ويدمج المقاربة التشاركية في صلب انشغالات مغرب اليوم، مغرب ما بعد فاتح يوليوز 2011. إن من المميزات الأساسية التي تشكل نقاط قوة مشروع الدستور الجديد، هي اعتماد مبدأ الجهوية المتقدمة الذي أضحى الدعامة الأساسية للإدارة الترابية، وحجر الزاوية في تكريس لامركزية متقدمة وتنمية محلية مستدامة، فلقد تم تخصيص باب «تاسع» مكون من 12 فصلا (من 135 إلى 146) في الصيغة الجديدة للدستور للجماعات المحلية ممثلة بالجهات والعمالات والأقاليم والجماعات التي أضحت هيئات لامركزية تتوفر على آليات وأدوات ووسائل قانونية ومالية لتمكينها من الاضطلاع بالدور المناط بها كمحرك أساسي للتنمية. فلقد أصبحت الجهات والجماعات الترابية الأخرى، تتوفر، «في مجالات اختصاصاتها وداخل دائرتها الترابية، على سلطات تنظيمية لممارسة صلاحياتها» ويجب الحرص على توسيع صلاحيات الجهات وبالخصوص في مجال التنمية الاقتصادية والابتكار والتكوين. وإن مقاربة الجهوية من خلال مفهوم «أحواض الحياة الاقتصادية» Bassin de Vie Economique أو ما يصطلح على تسميته ب B.V.E كمقاربة للتنمية الترابية لمن شأنه أن يمنح أرضية نظرية لمقاربة هذه الإشكالية. وهذه الإحالة لدراسة أعدتها وزارة السكنى والتعمير وإعداد التراب الوطني سنة 2008 تطرح مسألة مدى تفاعل المؤسسة التشريعية مع مختلف الدراسات القيمة والأبحاث الأكاديمية واستعانة البرلمان بمجلسيه، وكذا المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالخبراء والأخصائيين في مجالات عديدة تهم مختلف مقاربات تدبير الجماعات الترابية ورهاناتها التنظيمية والهيكلية والقانونية والمالية ... وغيرها، يجب الحرص على إدماج فكرة «التنوع الترابي» diversité des territoires ضمن تصوراتنا للجهوية المتقدمة، لما لها من انعكاس على عملنا وجهدنا التشريعي، وذلك بتشجيع دراسة خيارات التكييف التنظيمي والقانوني لإدماج الخصوصيات الجهوية ضمن الجهد التشريعي لمجلس المستشارين، والموجه أساسا في اتجاه مقاربات تدبير الجماعات الترابية. هذه إحالة أخرى تجرنا إلى مدى قابلية التجاوب والتفاعل لدى الغرفة الثانية مع مقترحات جادة في الموضوع... وخير مثال على ذلك مقترح قانون يتعلق بإحداث مجلس وطني للمناطق الجبلية ووكالات خاصة بالكتل الجبلية الرئيسة في المملكة يصب في نفس الاتجاه، والذي ظل حبيس الرفوف منذ شهر فبراير من سنة 2009. يجب تدعيم نظام الجهوية المتقدمة من خلال تعزيز وتقوية صندوق للتضامن بين الجهات وصندوق للتأهيل الاجتماعي (الفصل 142 من الدستور) لسد العجز في مجالات التنمية البشرية والبنيات التحتية الأساسية والتجهيزات وإدماج المقاربة البيئية المستدامة ضمن الإشكاليات الجهوية المطروحة. إن نص الدستور الجديد يعكس الأشواط الهامة التي قطعها المغرب في ما يخص المقتضيات القانونية والموارد المالية والبشرية، في سبيل تقوية استقلالية الهيئات المنتخبة، بهدف جعل اللامركزية والجهوية على الخصوص، رافعة حقيقية للتنمية. ومن هذا المنطلق يجب الحرص أشد ما يكون الحرص على وضع نظام خاص لتكوين منتخبي الغد .. وإدماج كل هذه الخصوصيات التي تطرقت لها سالفا ضمن رهانات التكوين، بجانب المقاربة التشاركية ومقاربة النوع الاجتماعي والحكامة الترابية ضمن انشغالات هذا الورش التأهيلي الهام. إننا قليلا ما نتحدث عن مهام المنتخب، الذي يعتبر انتدابه عملا تطوعيا مواطناتيا.. واختصاصاته ومهامه الانتدابية والتمثيلية ينظمها ويقننها القانون. وإذا علمنا أن الخيار اللامركزي بالمغرب هو خيار استراتيجي لا رجعة فيه .. بحكم أنه إثبات وتأكيد لحريات فردية وجماعية وترجمة للديمقراطية المحلية ولديمقراطية القرب. وبالتالي فالجماعة المحلية هي مهد الديمقراطية والحرية وهي منطلق قوة الشعب الحر .. في اختياراته التنموية .. في توجهاته المستقبلية.. وفي طموحاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية. وبدون مؤسسات جماعية يمكن لأمة أن تتوفر على حكومة حرة.. ولكنها لن تتوفر على روح الحرية. وقد عزز ديننا الحنيف هذه الفكرة الجوهرية ب «وأمركم شورى بينكم» إن مسلسل اللامركزية والجهوية المتقدمة قد بلغ مراحل النضج التي مكنته من إرساء مختلف الوحدات الترابية كمحرك للازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والثقافي وكركيزة لتنمية جهوية مندمجة ومتنوعة، وإن نظام اللامركزية ببلادنا يسير في خطى متأنية... وهو وليد عقود من التطور والتشكل.. وكل مرحلة من هذا المسار الطويل تقتضي توقفا للتأمل وللتقييم ولتصحيح المسار. ومرحلة ما بعد دستور فاتح يوليوز 2011 تمهد لمرحلة التدبير والإدارة الحرة والمسؤولة للجماعات الترابية. وعلينا جميعا ربح هذا الرهان، وهو رهان قيم ومبادئ ورؤى مستقبلية.. وهو كذلك رهان قيادة leadership ونظام حكامة وتوفير إمكانيات وتدبير مؤسس على ثقافة النتائج والمحاسبة. وبما أن لا أهمية ولا قيمة للمؤسسات إلا بقدر ما يقدم لها الرجال والنساء من بذل وعطاء وإخلاص، ولأجل وضع مهام المنتخب والتزاماته السياسية والأخلاقية في صلب هذا الرهان التنموي وتمكينه من تكوين جيد يليق برهانات المرحلة، يتعين: اقتراح استراتيجيات تكوين وخطط عمل تضع في صلب رهان التنمية المحلية انتظارات وحاجيات نساء ورجال هذا البلد الكريم، دعم المشاركة المثلى للمواطنين في الحياة السياسية المحلية وفي مراكز القرار بالجماعات الترابية، تعزيز القدرات القيادية للمنتخبين، وبالخصوص للنساء المنتخبات في إطار مقاربة النوع الاجتماعي في إطار تدبير الشأن المحلي، دعم التشبيك والانخراط في مختلف التنظيمات الإقليمية والجهوية والدولية للمجالس المنتخبة لتسهيل تبادل التجارب وإغناء المسار السياسي والتدبيري للنساء والرجال القيمين على تدبير الشأن المحلي، دعم تكوين المنتخبين في مجال «الحكامة المالية»وتدبير المشاريع، الاستغلال الأمثل لوسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة في مجال تكوين المنتخبات والمنتخبين، وضع نظام أساسي خاص بالمنتخب المحلي، أما فيما يخص مجال الجبايات المحلية، فعلينا التوجه نحو فكرة تمويل كل البرامج والسياسات العمومية المرتبطة بالتضامن والتعاون الوطني من ميزانية الدولة. كما يتعين تمكين الجهات الاقتصادية من سلطات جبائية حقيقية، وبالتالي يقتضي الأمر إعادة توزيع منتوج الضرائب بين الجهات والأقاليم والمجالس المحلية.