إفريقيا ستُشكل في المستقبل أحد الأقطاب الإقليمية للنمو الاقتصادي والإشعاع الثقافي في العالم في إطار الأشغال التمهيدية للمنتدى العالمي الرابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية حول الإحصائيات والمعرفة والسياسات، الذي سينعقد في نيودلهي ما بين 16 و19 أكتوبر 2012، حول موضوع «الرفاه من أجل النهوض بالتنمية ووضع سياسات فعالة»، احتضنت الرباط أشغال الندوة الإفريقية في موضوع «قياس الرفاه وتعزيز تقدم المجتمعات»، المنظمة بشكل مشترك بين المندوبية السامية للتخطيط ومركز التنمية لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في الفترة ما بين 19 و21 أبريل الجاري. وتهدف هذه الندوة إلى تعميق التفكير حول كيفية قياس الرفاه وتقدم المجتمعات، تحسين نجاعة القياسات والتحاليل المعتمدة لمقاربة الرهانات الكبرى في مجال السياسات العمومية، والوصول إلى نتائج ملموسة من قبيل وضع إطار للتحليل للأشغال المقبلة. وشكلت هذه الندوة آلية من الآليات الأولى للمساهمة الإفريقية في المنتدى العالمي الرابع لمنظمة التعاون والتنمية، وذلك بالنظر لما أتاحته من تبادل صريح ومفتوح لوجهات النظر وتبادل التجارب وتعميق المعارف والتفاهم وكذا تحديد الأولويات الإقليمية. ويشار إلى أن أشغال هذه الندوة، عرفت مشاركة ممثلين عن منظمات إقليمية ودولية، بما في ذلك اللجنة الاقتصادية لأفريقيا، وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، والبنك الأفريقي للتنمية، واليونسكو، ومسئولين سياسيين وإقليميين، ومسئولين عن هيئات الإحصاء، وجامعيين، ورجال أعمال، إلى جانب فاعلين آخرين من القارة ذوي اهتمام خاص بمواضيع الندوة. وتميزت الجلسة الافتتاحية لهذا المؤتمر بتدخل أحمد الحليمي المندوب السامي للتخطيط ندرج نصه فيما يلي: سيداتي سادتي، يسعدني أن أرحب بكم في المغرب، وأتمنى أن يكون مقامكم بيننا مثمرا وممتعا بقدر الإمكان. وعلى أية حال، كونوا على يقين أننا سنبذل قصارى جهدنا ليكون الأمر كذلك. أود أن أقرن ترحابي هذا بالتعبير عن تشكراتي الحارة إلى مركز التنمية وإلى مديرية الإحصاء التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، والشكر موصول إلى كافة المؤسسات الدولية والإقليمية لما كرسته من وقت واستثمار فكري من أجل التحضير لهذا اللقاء، ولإسهامها الثمين في إثراء أشغالنا. ستدركون أنه من خلال توجيه هذه التشكرات، بشكل خاص، إلى السيد ماريو بيزيني مدير مركز التنمية ومساعديه وإلى السيدة مارتين دوران، مديرة الإحصائيات بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فإني أود، باسم المغرب وباسم المندوبية السامية للتخطيط، الإشادة الصادقة بخصالهم الشخصية وبروحهم وباستفادتنا من أبحاثهم ومن دراساتهم المقارنة ودراساتهم التركيبية المتعلقة بالممارسات الجيدة التي أعدتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وخصوصا مركز التنمية التابع لها. ذلك أن الفضل يعود إلى جودة علاقاتنا مع هذا المركز في قيام بلدنا اليوم بتنظيم هذا المؤتمر حول قياس رفاه المجتمعات وتقدمها، الذي يندرج في إطار تحضير المنتدى الدولي حول موضوع «الرفاه من أجل النهوض بالتنمية ووضع سياسات فعالة»، الذي سينعقد في أكتوبر 2012 بمدينة دلهي في الهند. سيداتي سادتي، يقع المغرب في ملتقى فضاءين هما الفضاء الأطلسي والمتوسطي لإفريقيا. وبفعل انتماء المغرب إلى هذه القارة، فإنه يستمد منها أحد الأبعاد القوية لهويته. وفي هذا الإطار، يتقاسم المغرب مع البلدان الإفريقية الأصل واختلاط ألوان سكانه وتجربته التاريخية لحركات التحرر الوطني، وأحلامه في تحقيق الوحدة الإفريقية، وصعوبات تدبير الواقع الذي أفرزته مرحلة ما بعد الاستعمار والتوترات الناتجة عن الحرب الباردة، والصعوبات المترتبة عن المديونية ومِحَن التقويم الهيكلي. فهو ما زال يتقاسم اليوم، مع كافة البلدان الإفريقية، الواجب المُلح المتمثل في التوفيق بين نمو اقتصادي قوي ومستدام وتماسك اجتماعي مستدام. خلال مختلف المراحل التاريخية التي أشرت إليها، يُمكن لبعض بلدان قارتنا، أن تعتز بكونها نجحت في توطيد تماسكها الوطني والرفع من قدراتها التنموية والشروع في مسلسلات واعدة بالتقدم الاجتماعي والانتقال الديمقراطي. وتجارب هذه الدول تعزز قناعتنا بأن إفريقيا، بفضل جودة مواردها الطبيعية البشرية، يجب أن تُشكل في المستقبل أحد الأقطاب الإقليمية للنمو الاقتصادي والإشعاع الثقافي في العالم. غير أن نماذجها التنموية ما زالت تعاني اليوم من بعض الهشاشة الهيكلية بالرغم من التحسن النسبي للنمو الاقتصادي الذي حققته خلال السنوات العشر الأخيرة. ذلك أن إفريقيا ما زالت تواجه تحديات خطيرة تتمثل في نسب الفقر المرتفعة والتفاوتات الاجتماعية والترابية، وفي تضاعف عدد بؤر النزاعات وانعدام الأمن، بل وحتى الحروب الخفية وتأثيرات التغيرات المناخية التي ابْتُلِيَت بها في مجال المحافظة على ثرواتها الطبيعية وعلى ظروف عيش سكانها. إنها تدرك اليوم مدى الفارق بين وعود ونتائج سياسات التحرير والانفتاح الاقتصاديين اللذين لم يقترنا بإنجاز إصلاحات هيكلية ذات طابع اقتصادي ومجتمعي وثقافي تفرضها التنافسية الشاملة في سياق إكراهات العولمة. والتغييرات التي سيعرفها العالم خلال القرن الواحد والعشرين هذا هي ذات طبيعة من شأنها أن تجعل الانخراط في هذه التنافسية الشاملة أكثر استعجالا بالنسبة لبلداننا. سيداتي سادتي، الواقع أن الأزمة الاقتصادية ذات الطابع النسقي، التي يعيشها اليوم النظام الاقتصادي العالمي، والتي لا يلم الخبراء بامتداداتها وتأثيراتها إلا إلماما جزئيا، تشكل العنصر الذي يكشف بروز عالم جديد. وهذا العالم، الذي ما زال يعيش اليوم فترة مخاض، هو الذي سيمنح للقرن الواحد والعشرين، في النهاية، هويته الخاصة. وستعيد الجغرافيا الاقتصادية العالمية الجديدة، التي يحملها هذا العالم في أحشائه والتي نلاحظ اليوم بعض ملامحها، أساسا إنتاج وإثراء الآليات الاقتصادية للعولمة وللقيم التي تُشكل أساسها والتي استطاعت أن تضفي عليها طابع الكونية بكيفية لا رجعة فيها. في هذا المسلسل تُدمِجُ التحولات التي تعرفها اليوم مجالات البحث العلمي والتكنولوجيات وأنماط الإنتاج والتبادل والاستهلاك، أكثر فأكثر، الشروط الضرورية لاستدامة النمو الاقتصادي والتماسك الاجتماعي باعتبارها عاملا محدِّدا وأساسيا للتنافسية ولتحقيق الأرباح غدا. إنها تفتح للرساميل العمومية والخاصة فرصا جديدة، قطاعية وجغرافية واجتماعية للاستثمار، حيث لا يُلغي الانشغال بالتوازنات الإيكولوجية واستدامة الموارد وتنوع الثقافات وجود التنافسية والأرباح. وتتطلب هذه الآفاق من بلداننا «إعمال جيل جديد من الإصلاحات»، كما أوصى بذلك صاحب الجلالة محمد السادس البلدان العربية بدعوتها إلى الاستعداد لرفع تحديات التنافسية المستقبلية لاقتصادياتها، خلال الاجتماعات السنوية الأخيرة للمؤسسات المالية العربية المختلطة. ويمكن لهذه الآفاق أن تُشكل أيضا مصدرا لوضع أرضية للحوار وتبادل الأفكار بكيفية نزيهة ومثمرة مع الأجيال الصاعدة حول مشروع حقيقي للمجتمع يكون مطابقا للمطالبة، المفعمة بروح المواطنة، يكون فيه الاقتصاد في خدمة عدالة اجتماعية أكبر وديمقراطية أكثر تشاركية، وهي المطالبة التي عبرت عنها هذه الأجيال عبر العالم بقوة وإصرار لم يسبق لهما مثيل. ذلك أن البلدان التي لم تدرك مدى هذه التحولات ولم تستبق الجغرافيا الاقتصادية العالمية الجديدة للقرن الواجد والعشرين، ستكون مهددة باحتلال موقع هامشي في الخريطة التي بدأت معالمها ترتسم، وفي مراكز الثقل الاقتصادية والجيو-استراتيجية والسياسية. وفي صلب هذه التحديات، تكتسي التنافسية المستقبلية للاقتصاديات والتماسك الاجتماعي والرفاه، التي يُشكل قياسها الإحصائي موضوع نقاشاتنا في هذا اللقاء، بُعْدَ رهان مستقبلي حقيقي. سيداتي سادتي، يستمد موضوع مؤتمرنا راهينيته من هذا الدعم المجتمعي القوي الذي يميّز اليوم التوجه الجديد للإحصائيات في العالم. وفي هذا الإطار، يتم تحليل استدامته ثروة بلد ما بدقة وصرامة أكبر، ويتم تحليل التقدم الاجتماعي استنادا إلى التفاوتات في المداخيل والممتلكات، في حين يتم توسيع مفهوم مستوى العيش ليشمل مفاهيم أوسع، هي مفاهيم الرفاه وجودة الحياة التي تقاس بواسطة مؤشرات موضوعية وبإحساس السكان على حد سواء. وهذا المؤتمر مدعو إلى إغناء هذه الرؤية الجديدة للإحصائيات بالاستفادة من المقاربات التي تدعو إليها بمبادرة من مؤسسات دولية أو إقليمية أو وطنية مختصة. وبهذا الصدد، أود أن أذكر على الخصوص بالأشغال التي أنجزَتها في هذا المجال منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية اعتبارا لدقتها وصرامتها المفاهيمية والمنهجية ولاستلهامنا لها في القيام ببعض أبحاثنا. وإننا لعلى وعي بذلك، في المندوبية السامية للتخطيط، سيما وأننا وافقنا منذ سنوات خلت على توصيات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في هذا المجال. وقد تحققنا من وجاهتها عند قيامنا بأشغال تقييم الأداءات الاقتصادية لبلدنا وفي تحاليلنا وقياساتنا لظروف عيش مواطنينا. قمنا، مسلحين على هذا النحو بممارسة هذه الإحصائيات المواطِنة، بإنجاز بحثين كبيرين. يتعلق الأول بالحركية الاجتماعية لقياس الجوانب الموضوعية والذاتية لأحد عوامل التماسك الاجتماعي، وذلك انطلاقا من سلسلة متعددة السنوات لنتائج بحثنا الدائم المتعلق بالتشغيل. وفي البحث الثاني، حاولنا، من خلال مؤشرات دالة، إدراك فكرة مواطنينا عن الرفاه وإحساسهم بمواقعه في الحياة الملموسة وتقييمهم، من هذه الزاوية، لمستوى رضاهم عن الحياة التي يعيشونها. وبهذه المناسبة، أدركنا الصعوبات المتمثلة في تصور الأبحاث وتكوين المؤطرين المكلفين بإنجازها ميدانيا وتكييف صياغة بعض الأسئلة مع الخصوصيات الاجتماعية واللغوية المحلية للسكان، وكذا المجهود المفاهيمي والتقني الذي يتطلبه استغلال النتائج من طرف المهندسين الإحصائيين. ولهذا، يبدو لي أنه من حقنا، في الوقت الذي تتكاثر فيه المنشورات حول المؤشرات الإحصائية وحول قضايا تكتسي أهمية كبرى، أن نكون حذرين فيما يخص أساسها المفاهيمي ومناهج جمعها للمعلومات وتقنيات استغلالها وتأويل النتائج التي يتم نشرها. أود أن أختم هذه الكلمة بالتعبير عن أملي في أن تستطيع الإحصائيات المؤسساتية، تجنبا لكل خطر لإضفاء طابع مِركانتيلي على الإحصائيات، التكفل بإنتاج مؤشرات دالة على التقدم الاجتماعي، وذلك بتعاون مع الهيئات الدولية المعترف بكفاءتها في هذا المجال. وأدعو الله أن تُشكل أشغال هذا المؤتمر بداية لهذا المسلسل في إفريقيا. ومع هذا الدعاء، اسمحوا لي أن أجدد الترحاب بكم في بلدنا، مع شكركم على حسن إصغائكم. وأتمنى لكم النجاح في أشغالكم.