الإعلام سلاح رئيسي في المعركة. من واجبه أن يكشف النوايا العدوانية للعدو، وحقيقة أهدافه، وأبعاد مطامعه، ومدى تعارض ذلك وتناقضه مع المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، كما من وظيفته أن يفضح ممارسات هذا العدو، وأن يكشف مدى انتهاكها للاتفاقات الدولية، وكيف أنها تندرج في إطار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. كذلك من واجبات الإعلام في المعركة أن يؤكد عدالة القضية التي يدافع عنها، ومشروعية مقاومة العدوان، بالاستناد إلى الحق الثابت للبشر في الدفاع عن أنفسهم وأرضهم، كما كفلته لهم سلسلة القوانين والقرارات والمواثيق الدولية المعروفة. وأن يكشف عن الظلم الذي يلحق بالشعب الذي يتعرض للعدوان، باعتباره ضحية من حقه الدفاع عن نفسه، في مواجهة الإرهاب المنظم الذي يمارسه الطرف الآخر، تحت أي مسمى كان، وتحت أية حجج أو ذرائع كانت. كما من واجبات الإعلام أن يخاطب شعبه فيشرح له حقيقة الأوضاع دون تزييف أو مبالغة، يدعوهم إلى التكاتف في الأيام الصعبة، يرفع من معنوياتهم ويعزز من إرادتهم على الصمود. كذلك من واجب الإعلام أن يخاطب المقاتل في الخندق وأن يقدم له نشرة دورية، تكشف ما يلحق بالعدوان من خسائر، مما يقوي من عزيمة المقاتلين الذين يدافعون عن أرضهم وشعبهم وعائلاتهم. الإعلام الذكي هو الذي يتوجه إلى الآخرين، كل باللغة التي تتناسب وموقعه، وبحيث يكسب الأصدقاء والمؤيدين، ويفضح سياسة العدو وجرائمه، ليفرض عليه العزلة الدولية، وبما يفتح الباب لمعركة دبلوماسية، تترافق مع معارك الدفاع المشروع عن النفس. ومن المفيد، في هذا السياق، أن يتوجه الإعلام نحو الشارع لدى الطرف الآخر، بلغة يفهمها هذا الشارع، تكشف له حقيقة الأسباب لاندلاع الحرب، والتي يتحمل مسؤوليتها الطرف الآخر وحكومته ومشاريعها العدوانية التوسعية بانتهاكهها للقوانين الدولية. مثل هذا الإعلام يشكل سلاحاً فعالاً في المعركة، يكسب لشعبه المؤيدين من حكومات وشعوب ومنظمات دولية، ويخلخل، إن أمكن، الجبهة العالمية المؤيدة للعدو. السؤال هو كالتالي: هل تمتلك المقاومة [تحديدا في قطاع غزة] مثل هذا الإعلام الذي من واجبه أن يقدم الشعب الفلسطيني باعتباره الضحية وأن يقدم العدو الإسرائيلي باعتباره الجاني والقاتل ومجرم الحرب؟. باختصار، ودون تردد، نسارع إلى القول: لا، نحن لا نملك في غزة مثل هذا الإعلام، ونضيف للأسف أن بعض إعلامنا يقدم العدو الإسرائيلي باعتباره هو الضحية، ويقدم المقاومة الفلسطينية باعتبارها هي الجاني، والمقاومين الفلسطينيين أصحاب نزعات حربية عدوانية متعطشين للقتل. *** كل السيناريوهات تقول إن المعارك تنشب في قطاع غزة مع العدو الإسرائيلي عقب غارة، أو عملية قصيرة يقوم بها العدو، تستهدف اغتيال بعض القيادات، أو قتل مجموعة من المدنيين الأبرياء والعزل. بعدها تنشب معارك الصواريخ مقابل القصف المدفعي والغارات الجوية الإسرائيلية. من الطبيعي القول إن ميزان القوى العسكري مختل لصالح العدو. وإن قدرة العدو على إيقاع الخسائر البشرية والمادية في صفوف الفلسطينيين أكبر بكثير من قدرة المقاومة الفلسطينية. ولنراجع معا نتائج الحملة العدوانية المسماة إسرائيلياً بالرصاص المصهور (2008 2009). ولنراجع كذلك نتائج الجولة الأخيرة من المجابهة، وعدد الذين سقطوا هنا أو سقطوا هناك. إسرائيل تبدأ العدوان، وتواصله، ذريعتها الأولى أنها تضرب وقائياً لمنع المقاتلين الفلسطينيين من تنفيذ عدوان، هم بصدد التحضير له. ثم تتواصل الذرائع فيصبح القصف المدفعي والجوي رداً على الصواريخ الفلسطينية.. وهكذا تتكرر المسرحية، ويملأ الناطقون باسم الجيش الإسرائيلي الفضاء الإعلامي بالبيانات الجاهزة عن «الارهاب الفلسطيني»، وعن «مآسي سكان إسرائيل» تحت القصف الصاروخي الفلسطيني. ويتحول هدم جدار مدرسة في إسرائيل إلى جريمة حرب، تتدافع وكالات الأنباء إلى تسجيلها وتعميمها عبر الفضاء. ويصبح مشهد العجوز الإسرائيلية وهي تهرول نحو الملجأ، خوفا من الصواريخ الفلسطينية، هو المشهد الرئيسي في الخبر الأول لدى العديد من الفضائيات. وتغيب بالمقابل صور المدارس والمستشفيات، والمساجد التي استهدفها العدوان في غزة. وتغيب صور الأطفال الذين تناثرت اشلاؤهم هنا وهناك على يد المدفعية والطيران الحربي الإسرائيلي. وتغيب صور العجائز الناحبات تحت رحمة القصف الإسرائيلي.. بدلاً من هذا كله تحضر صورة «الأبوات»، في مواجهة العدسات الفضائية، يحيط بهم عشرات المسلحين الملثمين، ليطلقوا في الفضاء تهديدات بزلزلة إسرائيل، وإحراقها بيتاً بيتاً، وبالرد على جرائمها بأساليب توصف بأنها «لن تكون متوقعة»، إلى آخر ما هنالك من تهديدات وانذارات، وخطابات نارية، تحول إسرائيل إلى الضحية، وتحول المقاومة الفلسطينية إلى الجهة المعتدية والتي لا هم لها إلا إلحاق أكبر الضرر بإسرائيل وقتل أكبر عدد من سكانها اليهود.. خطابات من نتائجها أنها تجرد المقاومة من حقها المشروع وتحولها، في عيون الآخرين، وباستغلال إسرائيلي خبيث وبشع، إلى «إرهاب» يدينه المجتمع الدولي. *** بعض إعلامنا يشبه قصائد فرسان الجاهلية والجزيرة العربية. ويستعيد بعض تجارب اعلام أحمد سعيد. بالمقابل نلاحظ أن اعلام العدو يختلف تماماً، ويعمل على تكريس صورة معينة، مزيفة للواقع، في أذهان الرأي العام. لتكريس مفهوم «المحرقة»، أقام متحفاً في إسرائيل، يزوره ضيوفها الرسميون وغير الرسميين. وتتكئ إسرائيل على تاريخ «المحرقة» لتستقطب تأييد الغرب لها، بذريعة أن العرب، وفي مقدمهم الفلسطينيون، يحضرون لها «محرقة» جديدة. علماً أن تاريخ إسرائيل العدواني مليء بالمحارق التي ارتكبتها في أكثر من بقعة. [دير ياسين السموع صبرا وشاتيلا قطاع غزة إجتياح عام 1982 الحرب على لبنان 2006 وغير هذا كثير] السؤال: كم متحفا أقمنا عن المحارق الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. متاحف فيها صور وبقايا قذائف، واستشهادات صحفية وعروض أفلام، وكتب، ووثائق، وملفات، واسطوانات وغيرها، كلها تحاول أن تكرس في أذهان الآخرين حقيقة العدوان الإسرائيلي، وحقيقة الجرائم التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى. لذلك ندعو إلى استراتيجية إعلامية في غزة، تكون مكوناً رئيسيا من مكونات «الإستراتيجية الدفاعية» للقطاع، يكون خطابها نحو العالم استقطابيا، عقلانياً، انسانيا، يستند إلى حقائق التاريخ، وإلى القانون الدولي، ويعيد تقديم الحالة الفلسطينية باعتبارها هي الضحية. متبعين في ذلك أساليب شتى [ماذا يمنع لو أننا كلفنا عددا من الحقوقيين بتجهيز لائحة لمجرمي الحرب الإسرائيليين، مدعومة بالوقائع والمرافعات والوثائق الدامغة، وحولنا هذه اللائحة إلى كتاب ينتشر باللغات المختلفة على شعوب العالم، وحكوماتها، ومؤسساتها السياسية والثقافية والإعلامية]. بدلا من أن تنهمك وزارتا الإعلام (في الضفة كما في القطاع) في تضييق الخناق على الاعلاميين الفلسطينيين، واعتقال بعضهم، وإحالتهم، بشكل ظالم، إلى المساءلة القانونية، عليها أن تنهمك في تسخير طاقاتها الإعلامية في خدمة قضايا الشعب الفلسطيني، وفي مقدمها، تظهير الجانب الإجرامي العدواني من صورة العدو، والجانب العادل والقانوني من صورة المقاومة. فالمقاومة مرة أخرى ليست مجرد بندقية. البندقية ضرورة لا غنى عنها، لكنها، في كل الأحوال، تحتاج إلى من يوجهها الوجهة السليمة، كما تحتاج في الوقت نفسه إلى من يدافع عن مشروعيتها ويكرس هذه المشروعية #