إيحاءات تستنهض بكل حرف رهافة حس المتلقي يطالعنا القاص محمد محقق بباكورة أعماله القصصية الورقية خيوط متشابكة في طبعة أنيقة، أول ما يلفت المتصفح لها لوحة الغلاف المتداخلة مع العنوان بشكل يوحي بتناسق العمل من حيث الشكل والمضمون، هذا الانطباع الأولي يأخذ مجرى متصاعدا وعميقا مع عناوين القصص المفصلة على مقاسات المضامين ومبانيها: كلمات هو عنوان أول قصة والتي جاءت هكذا: «أبصرهم بكمان كلماته.. تتحول الحروف إلى ندف من نار.. ينثرها للعصافير التي تحلق بعيدا.. ثم تعود للحقول. وفي مناقيرها سنابل صفراء..»، هكذا تنساب الأحداث المرصودة عن بعد رغم أنها كلمات السارد، فهو يتصيدها من خلال تأثيرها على المتلقي أو المتلقين المفترضين حيث يأخذ لحن كلماته صدى حارا من التجاوب الحر والتلقائي الذي يطلق العنان للمتلقي ليحلق بكل أدواته في عالم القراءة ليخرج بنسق ناضج من العلاقات المتبادلة بين طرفي فعل الكتابة المتعدي منتج -قصاص وقارئ، إنها سنابل صفراء فهذه القصة»كلمات» هي دعوة للقراءة المتأنية بالعودة للحقول التي نبتت خلالها تلك الحروف، دعوة لتقليب القراءة الرحمية على كل الوجوه والدلالات، التي تجذب القارئ لفتح باب القصة ككل خيوط متشابكة على مصراعيه، وبذلك تستحق هذه القصةأن تكون المدخل الصريح والشرعي لعالم «خيوط متشابكة» التي كلما أوغل المتلقي بين دروبها بحذر إلا واكتشف عمق مغامرة القصة القصيرة جدا التي تنهض على جمالية خاصة من تكثيف من قبل القاص وإيحاءات تستنهض بكل حرف رهافة حس المتلقي أو القارئ وتستدرجه من الشاطئ حيث يألف الراحة إلى زرقة الماء اللامتناهية التي عليه أن يجدف بكل قواه وفي كل اتجاه، ليلحق ليس بالشاطئ الذي ودعه بل ليأخذ عباب المتعة الواعية التي يحصدها سنابل صفراء ناضجة من عمق الكلمة وفجائيتها، هكذا يبقى المتلقي متحفزا منجذبا من أول قصة «كلمات» من أول عنوان من بين خمسين عنوانا تضمنتها قصص خيوط متشابكة الممتعة التي تحتاج لوقفات ووقفات لملامسة غناها الفني والدلالي. أبصرهم بكمان كلماته.. فتداخل الحواس وتشابكها من بصر مع إحالة صريحة على السمع سواء من خلال الكمان أو الكلمات التي تخاطب في العادة السمع، تجدنا أمام تكسير لكل مألوف في اللغة ليكون هذه الصورة من التفاعل الذي ليس له فاصل بين الكلمة وتأثيرها، فتتبع صدى الكلمة عند المتلقي يأخذ أبعادا دلالية كثيرة، منها أهمية الشحنة التي تحملها أي الفكرة التي يوجهها الكاتب للمتلقين فتطغى الرؤية على السمع عندما يرصد السارد الكلمات المجسمة في حروف مجسدة في ندف من نار، فهذا الفضاء الساخن دليل تفاعل وتجاوب بين الطرفين متلق وملق، هؤلاء المتلقون ليسوا أي نوع بل هم ممن يحلقون بعيدا بخيالهم، هم عصافير ويعودون بعصافير التي قد تكون أفكارا، وهذا التحليق يظل مقيدا بالكلمات، فالعودة للحقول محسومة أولا لوضوح السياقات وجمالياتها التي تجعلها قريبة المآخذ، فكلمات القصة لا تنحو الإلغاز المخل، وإن كانت سابحة بفضل تكثيفها إلى التشعب في القراءات المثمرة الناضجة سنابل صفراء، وهنا نجد أن هناك ترابطا عضويا بين قصة كلمات وعنوان المجموعة القصصية ككل خيوط متشابكة، فكلمات لا تخلو في كل مقاطعها من ذلك التشابك لتكون لبنة لا تنفصل عن القصة ككل لا من حيث المعنى أو المبنى، وهذا الربط المتين بين الجزء والكل يبرهن ولا شك أن المؤلف محمد محقق قصاص في هذا الفن العصي والمشاكس.