العشيات في الزمن المغربي الماضي لها نكهة خاصة بحواري مدينة سلا. مع انسحاب النهار وشروع الشمس في التواري مرة أخرى مخلفة وراءها ذلك الضوء الأقل الذي يسبق حلول الظلام. كانت الحياة البسيطة والعادية تدبّ ضاجّة في حينا الشعبي، فتجلس النساء والفتيات باسترخاء على عتبات المنازل للثرثرة والضحك وأمامهنّ يتقافز الأطفال فيشيع فرح خفيف في الأجواء. كنّا نحن «مثقفي» الحي الذين تجاوزوا مستوى الرابعة إعدادي بجدارة واستحقاق، نستمتع أيضا بالعشية وسط مناقشاتنا الحامية التي كانت تدور حول الكتب الخارقة التي نقرؤها أو حول هموم الدراسة التي كنّا فيما يبدو نحملها ثقيلة فوق ظهورنا الفتية في زمن لم يكن فيه الآباء يولون أدنى اهتمام بما نحققه من تحصيل في مؤسساتنا التعليمية. كان هذا حال العشيات خلال جميع أيام الأسبوع باستثناء عشية الثلاثاء. عشية الثلاثاء كانت موعدنا الأسبوعي مع المكتبة البلدية بالمدينة القديمة بسلا. تستقبل المكتبة منخرطيها في الساعة الثالثة بعد الظهر و كنّا نحن نقف أمام بابها الكبير نصف ساعة قبل ذلك. كان في الأمر طبعا، شيء من الفطنة. فالتلاميذ الذين يصلون متأخرين، لا يعثرون في الغالب على الكتاب المناسب حيث ترجمة الشعراء، كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني مثلا. كانت المكتبة توفر نسختين منه فقط و كان هو المرجع الأساسي الذي ينصحنا به أستاذنا في اللغة العربية السيد «فنيش» أو «الفتحة الظاهرة بآخره» (لقب كذلك بسبب معطفه ذي الفتحة الخلفية الذي لم يكن يغيره أبدا) كما كنّا ندعوه فيما بيننا نحن العضوات النشيطات في الحركة النسائية بالثانوية. هذه الحركة التي كانت في حقيقة الأمر الإطار العلني لحركة «أكون أو لا أكون ذلك هو السؤال» الراديكالية المحظورة والمتكوّنة من أربعة مناضلات. كنّا مخلصات لموعد الثلاثاء، ليس من أجل الفوز بكتاب الأغاني، بل من أجل الحصول على كتب أخرى لم يسبق لأيّ من الأساتذة أن اقترحها علينا. كان اكتشافي للرواية المبهرة «الحي اللاتيني» للأديب سهيل إدريس حدثا كبيرا في مسار رحلتي مع الأدب التي كانت قد بدأت للتوّ. لا زلت إلى اليوم أتذكر كيف كنت أمضي الأسبوع بأكمله أفكر في ذلك الطالب المشرقي التائه في شوارع باريس. كنت أعيش مغامرته الشيقة على مدى أسابيع بحيث كنت حريصة كلّ الحرص على موعدي معه.. موعد يكاد يشبه مواعيد الغرام المسروقة التي سأعرفها فيما بعد. كنت ألهث خلف أحداث تلك الحكاية التي كان الجوّ الدافئ المنتشر في المكتبة يضفي عليها سحرا خاصا.. لا يوقظني منه سوى صوت المشرفة وهي تعلن عن انتهاء الدوام. كانت الصفحات الجديدة التي أحملها معي عند نهاية عشية الثلاثاء وأنا أغادر تلك البناية الكبيرة العالية، تظلّ ترافقني طيلة الأسبوع. تسمو بي بعيدا عن «سخافة» الحياة العادية. لم يكن هناك أمر من شأنه صرفي عن موعد الثلاثاء، بحيث لا زلت أذكر إحدى تلك العشيات التي كان فيها المطر قد أغرق الحي تماما، عندما انطلقت مسرعة وسط ممانعة أمي. أكاد أرى شبح تلك المراهقة الصغيرة التي كنتها وهي تركض داخل بللها بعد أن لفظتها الحافلة متّجهة إلى تلك البناية الكبيرة البيضاء لتعانق فصولا أخرى من رواية «الحي اللاتيني». في تلك المرحلة من حياتي، كما أستطيع أن أفهم الآن طبعا، كنت قد بدأت أصاب بمسّ الأدب: مشهد الكتب على الرفوف الخشبية التي تغطي الجدران، رائحتها ونحن نغرق أنوفنا في صفحاتها، قطرات المطر التي كانت تنزلق بانسياب يكاد يكون موسيقيا على زجاج النوافذ، ثمّ منظر كلّ تلك الرؤوس المنحنية أمام كتاب كتبه شخص ما في مكان ما في زمن ما. كنت، فيما يبدو، على موعد مع كلّ هذا عشية ثلاثاء. عندما كنت أخرج يجتاحني البرد. كانت تلك الساحة الممتدّة أمام بناية المكتبة تنتصب أمامي فجأة بمقاهيها وأرصفتها وضجيجها فأشعر أنني تركت الجمال خلفي. ينتصب أمامي عدد كبير من الناس منهم الراجلون والراكبون والصامتون والمتحدثون الفرحون والمكتئبون لكنّهم كانوا بالنسبة لي في تلك الأثناء مجرد كائنات «خبزية» لا تقرأ الشعر ولا تعيش الروايات. كنا نحن مخلصو عشية الثلاثاء وفي مناسبات متعددة نعرج على الشاطئ الذي كان يمتدّ سخيا مباشرة خلف بناية الخزانة، في محاولة أخيرة منا للاحتفاظ ولو بقدر يسير من ذلك الألق اللذيذ الذي كنّا نخشى عليه من التلاشي وسط تسطح المدينة. وفي المرات التي يتصادف فيها أن تكون مرافقتي مصابة مثلي بمسّ الأدب كنت أتمادى في اقتناص اللحظة فأقترح عليها أن نمتطي معا أحد تلك المراكب الخشبية القديمة التي كان يمتطيها الناس للعبور بين ضفتي النهر الذي يفصل مدينتي الرباطوسلا. فنداعب بأيدينا ماء نهر أبي رقراق العظيم و نصغي لصوت خريره العذب. أتساءل الآن: ترى ما هو السبب الذي حال دون تفكيري في طلب تلك الرواية على شكل استعارة منزلية لأحملها معي إلى البيت وأقرؤها «جرعة» واحدة؟ المراهقة التي كنتها كانت تدرك بالتأكيد وبشكل مبكر ربّما، أنّ المتع الكبيرة يطول عمرها عندما تأتينا أو نأتيها.. على «جرعات»..