كانت آخر المسافرين الذين لفظتهم الحافلة في تلك الليلة. تحمل بين يديها حقيبة صغيرة مملوءة عن آخرها تكاد تنفجر. تضع على رأسها غطاءا داكنا وتكسو جسدها من برودة تلك الليلة بجلباب سميك فقد تقريبا كل ألوانه. انتظرت «فاطمة» قرب الطوار قليلا ثم وضعت حقيبتها جانبا وجلست فوقه تطلب الراحة لرجليها اللذين سقاهما الصقيع وتجمدتا من كثرة الانتظار. أتت «فاطمة» إلى المدينة طلبا للعمل الذي وعدتها به إحدى قريباتها. فهي لا تملك تعليما كافيا للعمل في الوظيفة العمومية كما كانت تحلم وهي بعد صغيرة. كانت دائما تقلد دور المعلمة وتؤدي صديقاتها دور التلاميذ. لعبة جميلة أحبتها فاطمة وجعلتها تتقنها بشكل كبير لدرجة تلقيبها من طرف صديقاتها بالمعلمة. لسعها البرد حتى اصطكت أسنانها وفقدت الإحساس بيديها ورجليها. صمت القبور يلف المكان، فرغت الساحة من زوارها وظلت فاطمة تحتمي بجلبابها تقف مرة وتجلس أخرى. تلتفت يمينا ويسارا علها يظهر أحد ما تعرفه. قررت في النهاية الاستسلام لقدرها والاعتماد على رجليها المتجمدتين بحثا عن سيارة أجرة توصلها إلى بيت قريبتها التي لم تأت للقائها. بخطى حثيثة ومتوترة أجهزت على الطريق الممدد أمامها والخالي من المارة إلا من بعض من لفظتهم الحافلة مثلها وما زالوا يبحثون لهم عن مأوى. نقرات قوية بحذائها على الطريق تحدث نغما ليليا صامتا يصاحبها ويؤنس وحدتها وتشعر من خلاله بارتفاع نبضات قلبها وتوتر أعصابها. قريبة فاطمة تعيش بالمدينة و كانت تأتي لزيارتهم في المناسبات. سحرت فاطمة بحكاية قريبتها عن عالم المدينة الذي ينفض الغبار عن الأحلام المتآكلة ويجعلها ترى نور نجومها.. هامت مع أحلامها حتى قررت مغادرة قريتها الصغيرة والاستقرار بالمدينة. سمعت خطوات خلفها تعلو كلما أسرعت وتخفو كلما أبطأت. انتابها شعور مخيف وإحساس بالغثيان. أسرعت دون أن تلتفت إلى الوراء. عرق في عز البرد يتسلل إلى جبينها، نتيجة الخوف والارتباك والسرعة الشديدة. وما تكاد تجد لها طريقا على تضاريس وجهها حتى تتجمد في مكانها. استقر بها الخوف وهلكت قبل الأوان. ففكرت في لحظة هيجانها، أن تلتفت إلى الوراء. كبرت فاطمة وكبر حلمها الذي تبدد عند منتصف الطريق. في يوم، اسودت الدنيا في وجهها وانقلبت حياتها رأسا على عقب، لما قرر والدها أن تترك الدراسة بحجة الحاجة واليد القصيرة. تصادقت مع أيامها المهزومة وتركت حلمها جانبا مركونا في ركن من أركان غرفتها الصغيرة وهمست له «انتظرني، سأعود إليك قريبا.» وراحت تعمل بيديها في الحقل تارة وترعى غنم الغير تارة أخرى. حياة ألفتها بعد مضي زمن غير طويل. وجدت ظلام دامس يستوطن كل جزء من أجزاء المدينة الفسيحة ويوحي بارتكاب أي جريمة تحت جنحه. لا أثر للخطوات التي أحدثت هلعا بداخلها. انتابتها الشكوك وراحت تحدق بعينيها مليا محاولة كسر حصار الليل وتهدئة خفقان قلبها.» لا أحد، غريب هذا الأمر، «حدثت نفسها بصوت مسموع. تذكرت ساعتها يوم كانت ترعى الغنم وحيدة كعادتها، حاصر طريقها رجل كان مارا من هناك. اقترب منها. فرت منه. احتمت بغنمها. فكان أقوى منها. عاندت الخوف و ذاكرة الأمس والليل البارد واستمرت في مشيها. فعاد صوت القدمين من جديد. توقفت، صمت مطبق. استمرت، التفتت، لا أحد.» ما هذه الليلة الملعونة. في لحظة، يرن الهاتف، إنها قريبتها تسألها عن مكانها. لوم وعتاب شديدين من طرف فاطمة لقريبتها. اعتذرت لها بحجة أنها كان عندها ضيوف. وعند عودتهما إلى البيت، علا فجأة، صوت فاطمة غاضبا وحكت لها حكايتها مع صوت الأقدام. انتابت قريبتها ضحكات هستيرية حتى دمعت عيناها. قالت لها بصوت ضاحك: «كنت تسمعين فقط صوت قدميك..» وانفجرت فاطمة ضاحكة بدورها كأنها لم تضحك منذ زمن. تكررت زيارة قريبة فاطمة للعائلة خاصة لما علمت بخبر انقطاعها عن الدراسة. كانت تأتي محملة بالفواكه الغالية الثمن وبعض الملابس لفاطمة. عند كل مرة، تلوم أمها على ترك فاطمة إلى جانبها وهي تحمل كل هذا الجمال والشباب. قالت لها يوما.. «بالمدينة تستطيع أن تجني المال بسرعة..وأن تشتري لكم بيتا كبيرا..» في هذه الأثناء، كانت فاطمة في غرفتها يصل إليها الحديث رغما عنها. بحثت عن حلمها الذي ركنته في أحد أركان غرفتها، بدا باهتا و بلا ألوان. لم تفهم و لم تسأل. تركته جانبا و خرجت لا تلوي على شيء. أقبل المساء، عادت فاطمة بالغنم إلى أصحابه. ولجت غرفتها في صمت. منذ سمعت الحديث الذي دار بين أمها وقريبتهم وهي تائهة غير مستقرة لا تلوي على شيء. بادرت أمها في غفلة منها»أريد الذهاب إلى المدينة.» توالت الأيام تتشابه عند فاطمة. نهارها مثل ليلها. أكل طيب و لبس أنيق ونوم. لا تغادر البيت إلا برفقة قريبتها. في كل مرة تسألها عن العمل الذي وعدتها به، تطلب منها أن تنتظر وتصبر على رزقها. نامت فاطمة في العسل حتى نسيت لماذا أتت إلى المدينة. أصابها غثيان كثير وإرهاق بدون سابق إنذار. ارتابت قريبتها للأمر. سألتها عن السبب. أجابت ببراءة كل الأطفال: لا أعرف. ربما الأكل.. قريبتها عالمة بخبايا الأمور من خلا ل مكوثها بالمدينة منذ زمن واعتمادها على نفسها في تدبير حياتها. ظلت تراقبها بشكل مريب. فلاحظت ما كانت تخشاه. انتفاخ بطنها؟ صفعتها على خدها حتى انبطحت أرضا وسال الدم من أنفها وقالت لها بعنف: ما هذا يا بنت الحرام؟ هاجمت فاطمة ذكريات ذلك اليوم المشئوم الذي أسقطها ذلك الرجل أرضا وبكت بشكل مجنون و أخذت تضرب بطنها حتى أغمي عليها. استحال الشارع إلى مسكن فاطمة الجديد. تزحف بخطى متهالكة باحثة عن خيط رفيع يجعلها تتمسك بالحياة. صراع بالليل و النهار من أجل البقاء. «أنا لم آت إلى المدينة لأعيش هذه الحياة.» قالت يوما لصديقة جديدة من سكان الشارع. ضحكت صديقتها بمرارة حارقة وقالت : «لماذا نعيش في الشارع؟» سكون مجروح ودموع تحمل مرارة كل اللحظات التي عايشتها فاطمة. التفتت إلى صديقتها التي كانت تتكلم كالمتعلمين وسألتها نفس السؤال: لماذا نعيش في الشارع؟ أجابتها صديقتها بابتسامة ساخرة: لأنك تحملين العار وأنا أيضا والأخرى... والأخرى... أعادت السؤال محاولة الفهم: أنا لم أفعل شيئا مذنبا. أنا ضحية و...هنا انتابت صديقتها ضحكات مجلجلة: كلنا ضحايا لكن في نظر مجتمعنا كلنا مجرمات. لم تفهم هذا الكلام الكبير، بعينيها حيرة. قالت: وأين القانون الذي يجب أن يحمي الضحية؟ أجابتها صديقتها كحكيم في الدنيا: المجتمع هو الذي يحدد القانون يا صغيرتي... الفاهم يفهم... تيارات هوائية باردة تلسع بدن فاطمة. تجمدت حركتها إلا من عيونها التي أدرت دموعا هاربة من مثواها الساخن. لم تتجمد. تحركت بسرعة فائقة وأحدثت جداول وأخاديد على ملامحها. أطلقت العنان لصرخة مدوية زلزلت سكون المكان ووحشته، نادت على أمها، سألت أبيها عن ما حصل لها وما يحصل لها. همست: «أنا لم أفعل شيئا. السبب هي الغنم.. لماذا لا تعاقبوا الغنم؟..لماذا لا تعاقبوا الغنم..».