حفر عن خصوصيات المجتمع المحلي في نصوص القصاصين المغاربة الرواد يشتغل الباحث الدكتور مصطفى يعلى في صمت، لكنه يفاجئنا بين الحين والآخر بإصدار متميز، يضيف إلى الساحة الثقافية المغربية والعربية عطاء نوعيا، يساهم بتواضع في إغنائها والدفع بها نحو المزيد من التنقيب والكشف والتطوير، بخاصة في حقل السرد المغربي الرسمي والشعبي. وفي هذا السياق، صدر له مؤخرا كتاب رائد في بابه، غير مسبوق من طرف أي من الباحثين المغاربة أو العرب، في موضوع حساس تحت عنوان (ظاهرة المحلية في السرد المغربي: حفر عن خصوصيات المجتمع المحلي في نصوص القصاصين المغاربة الرواد). صدر الكتاب ضمن سلسلة «الأربعة»، عن مطبعة الأمنية بالرباط 2011، من القطع الكبير، وفي 348 صفحة. وهو يتمفصل إلى قسمين اثنين يكمل أحدهما الآخر. القسم الأول؛ معنون (ظاهرة المحلية)، وهو ذو طبيعة نظرية، خاص بمناقشة تفاصيل المحلية من حيث هي ظاهرة، وذلك عبر أربعة فصول هي: (المحلية مفهوما، المحلية تجليا إبداعيا، المحلية نزعة، المحلية دعوة). القسم الثاني؛ موسوم (محلية السرد المغربي)، وهو قسم تطبيقي، يستنطق فيه الباحث النصوص السردية لعدد من القصاصين المغاربة الرواد، المنتمين إلى بعض المدن المغربية العريقة (فاس، أصيلة، تطوان، سلا)، بحثا عما يحمله إنتاج كل منهم من تجليات محلية خاصة بمجتمعاتهم الضيقة، وذلك عبر أربعة فصول أخرى (العتاقة المهددة بالتحول، أصيلة مرتعا لشطارة الطفولة المستعادة، الرؤية النقدية الإصلاحية للمجتمع المحلي، المحلية معبرا للالتزام). إن الكتاب ينطلق من فرضية كون هيمنة ظاهرة المحلية على مختلف الأنشطة الثقافية، ومنها الإنتاج السردي في المرحلة المدروسة (من أوائل الأربعينات إلى نهاية الستينات)، لم تكن سوى نوع من الدفاع عن الذات وتحصينها أمام تغول الغرب المستعمر، الذي كان يسعى إلى إلغاء الهوية العربية الإسلامية عن الوطن، ويهدد بالتهام كل شيء؛ دونما تعارض مع التوجه القومي الذي ساد الوعي به في تلك المرحة، إذ أن صرح هذا الأخير لا ينهض إلا على أساس العناية بكل ما هو محلي، لما بين التوجهين من تكامل وتساند. وهكذا حاول الباحث تحديد مفهوم المحلية تحديدا يمنحه ماهيته، مانعا التداخل بينه وبين مصطلحات ومفاهيم أخرى مجاورة، كالإقليمية والوطنية والقومية. كما تمكن من الوقوف على أهم تجليات الظاهرة المحلية في الفن والأدب عموما. من غير أن ينسى الإلمام بالوضع التاريخي العام الذي نشأت وترعرعت في ظله قبيل وبعيد استقلال المغرب. فتبين أن لهذه الظاهرة أسبابا ذات علاقة بشروط تاريخية موضوعية، احتضنها مناخ اجتماعي ونفسي وسياسي خاص ساد المغرب في الفترة المدروسة «فتحت حوافز معينة، من عزلة تاريخية، وتسلط استعماري، وتجاهل مشرقي لما أنتجته القرائح المغربية من فكر وأدب، وإحساس بضرورة الاهتمام بكل ما هو مغربي في المجالات الفكرية، والأدبية، والفنية، والحضارية. نزوعا منهم إلى استكشاف الشخصية المغربية واستعادة الهوية الضائعة، دون أن ينسيهم هذا الحماس انتماءهم العربي الإسلامي الذي قامت دعوتهم تلك بوازع منه وغيرة على العروبة والإسلام في هذه الديار» (ص.330). وبالطبع فإن السرد، وفق ما يذهب إليه الباحث، كان من الميادين المناسبة لاحتضان التجليات المحلية بصورة مجسدة ورحبة، لما يملكه من إمكانات بليغة في التعبير عن المعاناة الفردية والمعضلات الاجتماعية والقضايا الوطنية والإقليمية والقومية، بل والإنسانية. ذلك أن قصاصي المرحلة المغاربة القابعين في مدنهم التقليدية العريقة، مالوا إلى الاهتمام بمجتمعهم المحلي والتعبير عنه وعن همومه وتطلعاته، ورسم فضاءاته بصورة تفيض حبا واعتزازا، لكنها لا تخلو من نقد ومؤاخذة بغاية إصلاحه قبل أن يجهز عليه التاريخ نهائيا، مع ملاحظة أن الظاهرة المدروسة قد انصبت أساسا في هذه المدن، على المجتمع المحلي باعتباره بيئة حاضنة لها، رغم وجود بؤر ناشئة للمجتمع الجديد في نفس المدينة. وفي هذا الصدد، يتمكن الباحث من فرز عدد من تفاصيل الظاهرة المخصوصة بمجتمعات ومدن مغربية معينة، من خلال الحفر في نصوص أشهر القصاصين المغاربة الرواد. إن الباحث يرى، تأسيسا على كل تلك التحفيزات والشروط والدوافع السابقة، أن القصاصين المغاربة من أبناء مدينة فاس، كأحمد بناني وعبد الرحمن الفاسي وعبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غلاب، قد انصرفوا في سرودهم بحماس صادق، نحو رصد حركة مجتمعهم المحلي الفاسي في لحظة حاسمة من تاريخه الحديث والمعاصر، حيث شرعت الحداثة تكتسحه في عقر داره، فجعل ما هو أصيل وعتيق يصطدم بما هو دخيل وجديد. وقد تمكن أولئك الكتاب من بسط مختلف تجليات المحلية بخصوصياتها المكونة لشخصية مجتمعهم الضيق بيئيا وحضاريا واجتماعيا وسياسيا ونفسيا، لكن في مواجهة مأساوية مع نقائضها المصاحبة للاستعمار الغربي، وهو ما ميز أبنية نصوص هؤلاء الكتاب بنسقين أساسيين تهيكلا دوما على ثنائية الهدوء والاضطراب. بعد ذلك، ينتقل الباحث إلى الكشف عن مدى تمثل أحمد عبد السلام البقالي للظاهرة المحلية في أغلب نصوصه السردية، التي تتخذ من مدينته أصيلة فضاء لها، حيث يحتضنها احتضانا دافئا يستمد نسغه من نوستالجيا حانية تجاه عالم الطفولة الضائع. فقد استطاع أن يلتقط شتى الملامح المحلية المشكلة لمجتمع أصيلة الأكثر ضيقا وتشددا، والمكونة جماليا عالما تخييليا ذا مواصفات خاصة، تتحدد في الصراع بين الأجيال في لحظة تاريخية عانى فيها هذا المجتمع من قسوة التقاليد والحرمان والفقر والممارسات السلطوية الأبوية والاستعمارية. وهو ما جعل نصوص البقالي تتميز هي الأخرى بنسقين اثنين لكنهما مختلفان إلى حد ما عما لوحظ في أعمال كتاب فاس، ونعني بهما حركة الشطارة المتحدية من لدن الأطفال والشباب، مقابل الطرد الصارم الذي مارسه المجتمع المحلي الأصيلي على أبنائه النجباء، وذلك حفاظا على استمرارية وتأبيد هذا المجتمع بكل مواصفاته الماضوية. على أن الباحث استطاع أن يتوصل إلى أن هناك مزيدا من التنويعات المحلية المختلفة للظاهرة. وهكذا اهتدى إلى أن الظاهرة المحلية قد تميزت في مدينة مغربية عريقة أخرى هي تطوان، بنزوع كتابها وخاصة محمد الخضر الريسوني، نحو الاحتفاء بالمظاهر الاجتماعية وطقوسها الراسخة، كالخطوبة والزواج والشعوذة والدجل والحرف التقليدية، وما إلى ذلك من المظاهر الإثنوغرافية، مع الاهتمام بما يشغل أصحابها من هموم وطموحات. وقد تم كل هذا بحس نقدي إصلاحي غايته التوفيق بين القديم والجديد، وبوعي طوباوي حريص على إعادة التوازن إلى المجتمع المحلي المختل، تساوقا مع شعارات حزب الإصلاح الذي كان يتخذ مقره الرئيس بهذه المدينة. ثم يصل الباحث في الفصل الأخير، إلى تنويع رابع في اشتغال الظاهرة المحلية بالسرد المغربي. حيث رصد خصوصيات هذه الظاهرة في قصص أحمد اشماعو بالنسبة لمدينة سلا العتيقة، كما تبدت في مختلف أنساق النص السردي لهذا الكاتب، لاسيما في المقدمة الطويلة، مكونة صورة أصيلة محببة وشيقة للمجتمع المحلي السلاوي، تدعمها الرغبة في فضح الظلم الممارس من لدن رجال السلطة والمال المحليين، وكذا من السلطات الاستعمارية الغاشمة، وهو ما ميز هذه الظاهرة لدى اشماعو بطابع الالتزام المعبر عن نفسه من خلال هذا المجتمع. وينتهي الباحث إلى تأكيد اختلاف الرؤية المحلية لدى كتاب المدن المذكورة، بيد أنه يعود فيقرر بأن تجليات الظاهرة كثيرا ما تماهت لديهم، فقد اشتركوا في معظم الخصائص الجمالية بناء وأسلوبا. وقد اتضح هذا أكثر من خلال اتخاذ هذه الظاهرة في نصوصهم «شكلا جماليا يتراكب من نسقين اثنين رئيسيين: النسق الأول: خاص بمعالجة صورة المجتمع المحلي المغلق، بمظاهره وأبعاده المختلفة، وهو في حالة ثبات واطمئنان. النسق الثاني: يخترق النسق الأول ويرجه رجا مخلخلا إياه عبر نظام للمقارنة غير المتكافئة، وكذلك يتصرف تجاه محتواه المحلي، فيصور المجتمع التقليدي في صراعه البئيس بسبب خارجي يتمثل في عنصر التحديث الوارد مع الأجنبي المحتل.» (332). ولا ينس الدكتور مصطفى يعلى تبرير نشر بحثه راهنا، في زمن إطلاق خرافة العولمة. فانطلاقا من وعيه الحاد بالاختلاف الجذري ما بين العالمية المرتبطة بالتنوع الخصب والمثاقفة المثمرة من جهة، والعولمة العمياء العابرة للقارات والكاسحة لكل شيء والمجرفة لثقافات الشعوب المتنوعة رسمية وشعبية، من أجل فرض نموذج قطبي أمريكي متوحش، من جهة ثانية؛ يؤكد أن سؤال الخصوصية في حاجة إلى إيجاد الأجوبة الضرورية من لدن الجميع.