عام 2017، كتب الرئيس الفرنسي السابق ڤاليري جيسكار ديستان، بعد أن تقاعد وبلغ من العمر عتيا، مقالا ناريا عن واقع بلاده حينها، نشرته مجلة»لوبوان»تحت عنوان:»فرنسا مريضة وعلى الشعب علاجها». كم هو راهني هذا العنوان وهذا التشخيص، وكأن فرنسا طيلة السنوات الست الأخيرة التي أعقبت نشر المقال بقيت تئن من المرض إلى اليوم. كل المؤشرات تفيد أن فرنسا اليوم مريضة، وهاهي، بسبب المرض، تشتعل ولا تريد نيرانها أن تخمد. اليوم يردد الشارع الفرنسي كله ما كان يقوله زوار فرنسا وأجانبها حول أن رجل الشرطة هناك لم يعد يبعث على الاطمئنان لدى الناس، ولم تعد رمزيته تفيد الأمان، والجميع يشير اليوم إلى سهولة إقدام بوليس فرنسا على استعمال السلاح الناري الوظيفي ضد من شاؤوا، أي سهولة اقتراف القتل. فرنسا، التي بقيت نموذجا لدى الكثيرين عبر العالم، ومنهم نخب سياسية واقتصادية وثقافية عندنا، صارت اليوم تعاني من غياب الدولة، وهذه الأخيرة تنازلت عن صلاحياتها لفائدة أجهزة الأمن، وبات وزير داخليتها الحالي أقوى من رئيسة الحكومة، ويعرف عنه خطاب استفزازي ضد المهاجرين والأجانب، وخصوصا المسلمين. وتجلت استقالة الدولة بشكل أكبر على عهد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، وتحولت فرنسا إلى سوق عام يجري التنافس فيه فقط على امتلاك وترويج سلعة واحدة هي خطاب اليمين المتطرف. وحتى قوى اليمين التقليدي، بل وماكرون ذاته، ينافسون من أجل ترويج خطاب سياسي أكثر تطرفا، وذلك لغايات انتخابوية. وكل هذا أفضى إلى انتشار مرعب للكراهية والحقد والتعصب، وغرقت فرنسا في منغلقات التوتر الداخلي، وصارت، في مرات عديدة، تقترب من حرب أهلية داخلية. أحياء المهاجرين بقيت تعاني من بطالة الشباب وهشاشة السكن والوضع المعيشي، ومن ضعف المستويات التعليمية والإندماج في سوق العمل، وكل هذا أضيف، الى الإحتقان السياسي العام في البلاد، وهو ما قاد، طبيعيا، إلى تنامي مشاعر الخيبة والرفض والاحتجاج داخل هذه الضواحي الفقيرة ضد الدولة وأجهزتها وسياساتها. الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون فشل في ايجاد العلاج لمرض فرنسا أو لأمراضها العديدة، وتاه في سياساته الداخلية والخارجية، وفي المعجم المفضل لديه، وفي التحالفات الغريبة أحيانا، كما تسبب لفرنسا في إفراغها من»كبار»الدولة، وفي إبعاد نخب عاقلة وبعيدة النظر، وفي إضعاف السياسة وقوى الوساطة في المجتمع. وحتى داخل مجتمع المهاجرين لم يعد هناك قادة رأي للوساطة مع الدولة، لأن السياسات المتبعة أضعفتهم، ولأن الكثير من أجهزة الدولة تملكت التطبيع مع لغة وسلوك العنصرية والكراهية. فرنسا مريضة... الكثيرون يتحدثون اليوم عن حاجة فرنسا الى السياسة أولا، والى نخبة سياسية عاقلة وممتلكة لبعد النظر... الكثيرون يتكلمون عن الحاجة الى إصلاح عميق للدولة الفرنسية ومختلف أجهزتها وكامل منظومة عملها وتفكيرها. الكثيرون ينادون بإصلاح جهاز الشرطة، قانونا وسلوكا وتدبيرا، وأيضا على مستوى العقلية. الكثيرون ينادون باستعجالية التفكير في واقع ومستقبل التعليم في فرنسا. الكثيرون ينبهون الى خطورة الأوضاع المعيشية لمهاجري فرنسا، وخصوصا الأجيال التي ولدت وكبرت في فرنسا، والحاجة الى سياسة تأهيل حقيقية، والى نبذ خطاب الكراهية وسياسات الإقصاء والتهميش في حقهم. آخرون أيضا يبرزون اليوم أن الحرب الروسية الأوكرانية تسببت في إضعاف كبير لأوروبا، وخصوصا فرنسا، ويوجهون انتقادات عديدة للرئيس ماكرون على هذا المستوى، ويحذرون من مخاطر هذه التداعيات مستقبلا، ومن ثم تبدو فرنسا اليوم مريضة داخليا وخارجيا، والمحللون يحملون ماكرون مسؤولية تفاقم هذه الأمراض نتيجة مواقفه وسياساته، وهو حائر اليوم يبحث عن العلاج المناسب لينقذ نفسه أولا، ولينقذ بلاده من الانحدار أكثر نحو... الهاوية. فرنسا اليوم تواجه مشكلة كبرى ومفصلية، وتتعلق بضعف الدولة، أو غيابها على الأصح، وتبعا لذلك وقعت العديد من التراجعات في السياسات والبرامج الاجتماعية والاقتصادية، وفي المخططات الحكومية لفائدة المهاجرين، ولفائدة الشباب، ولفائدة ذوي الدخل المحدود، كما تراجعت مستويات التعليم والسياسات الثقافية. في فرنسا اليوم تغولت الأجهزة الأمنية على حساب السلطة السياسية للدولة، وضعفت الحياة السياسية الداخلية بشكل مهول، وسيطر خطاب اليمين المتطرف في المشهد السياسي العام، وأضافت المنغلقات الديبلوماسية الخارجية وضعف ماكرون ما تبقى، وكل هذا أفضى إلى سقوط» النموذج» الفرنسي، أو على الأقل بداية تفككه داخليا وإقليميًا ودوليا. نعم، فرنسا تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية داخلية عديدة، ومنذ سنوات، كما أن الاحتجاحات الداخلية تزداد وتتفاقم، ولم تكن كلها من طرف المهاجرين، ولكن سبق أن قادت بعضها منظمات بيئية ثم جماعات السترات الصفراء، ومهنيون من أوساط متنوعة بسبب أوضاعهم العامة...، ومختلف هذه الاحتجاجات واجهتها السلطة المركزية للدولة وأجهزتها الأمنية بالعنف والقمع، وخلالها بدت الدولة فعلا ضعيفة، ولم تنجح في إعمال سياسة اجتماعية حكومية لتحقيق الهدوء والسلم الاجتماعي لحد الآن. في كل مرة تنذر احتجاجات فرنسا بانفجار عام في البلاد، وهذه المشاهد تكررت كثيرا في السنوات الأخيرة، ومعظم المحللين يؤكدون أن الدولة المركزية أصابها الضعف كثيرا، وأن الرئيس الحالي زاد البلاد وهنا وتيها وتوترا واحتقانا. فرنسا مريضة كما حذر ڤاليري جيسكار ديستان منذ ست سنوات على صفحات مجلة «لوبوان». حتات الرقاص