التعلم ليس له سِن.. وكم أسعد حين أصادف أثناء تواجدي بالجامعة أشخاصا عادوا إلى صفوف الدراسة ولم يفصلهم عن التقاعد إلا سنة أو سنتان بحلول موعد الامتحانات الإشهادية، يرتفع منسوب الضغط الذي ينال المترشحات والمترشحين لهذه التقويمات. وما يَنالهم يَنال أيضا الأُسَر التي تضع أيديها على قلوبها، وتسعى جاهدة لتوفير أحسن الظروف المساعدة على حسنِ التهيئ وسلامة الإعداد. وإذا كانت استراتيجيات الاستعداد تختلف باختلاف الأشخاص والمواد المراد الاشتغال عليها، فإن الاطلاع على المسارات الناجحةِ لأشخاصٍ سطروا لأنفسهم أهدافا استطاعوا تحقيقها، يعَد حافزا معنويا ذا مردود نفسي غير هَين على من هم في هذه المرحلة الحياتية الحاسِمة. لأجل هذا المبتغى، تستضيف بيان اليوم الإطار التربوي الأستاذ محمد فصيح، وهو من مواليد سنة 1979 باشتوكة أيت باها. يشتغل حاليا مفتشا تربويا للتعليم الابتدائي بمسقط رأسه. حاصل على تسع بكالوريات مختلفة المسالك – إلى حدود السنة الحالية – وعلى ثلاث إجازات وشهادة ماستر في تخصص القانون الدستوري والعلوم السياسية. هذا، بالإضافة إلى الشهادات المهنية في ميدان عمله. يطمَح ضيفننا إلى الإحاطة بجميع تخصصات البكالوريا، مع حصد المزيد من الشهادات الجامعية من مشارب مختلفة. مدرب للحساب الذهني (تخصص السوروبان)، وباحث في ديداكتيك المواد المدرسَة بالتعليم الابتدائي، ويقول بأن هذه المعرفة في متناول الجميع، يكفي فقط أن نخَطط ونجتهد للوصولِ إليها. * الأستاذ محمد فصيح مرحبا بكم، ما الباعِث وراء الاشتغال على هدفِ الحصولِ على شهادات البكالوريا من تخصصاتٍ مُتَنَوّعة وبالموازاة مع ذلك الانتقال للجامعة قصد النهلِ من معارفها؟ وما الرسالةُ التي تودون إيصالها من وراءِ هذا العملِ؟ ** مرحبا بكم، وشكرا على الاستضافة. حقيقة كان القصد من وراء الحصول على شهادات البكالوريا، في بداية الأمر، هو التغلب على إحساس داخلي تملكني – بعد ثلاثة عشر سنة من العمل داخل القسم – هو أنه مازال ينقصني الكثير. واتضح لي ذلك خلال جلسات النقاش مع الأصدقاء، وأثناء الجلسات الأخوية مع الزملاء، حيث كنا نتناول مواضيع تربوية وثقافية نناقشها بعمق. وأقولها بصراحة وبدون مبالغة، يخيل إلي في بعض الأحيان، أنني لم أعد أملك غير الحروف والأرقام وبعض قواعد اللغة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كانت لدي رغبة دائمة في التعامل النقدي مع بعض ما يقدم للمتعلمات والمتعلمين، خلال المقررات الدراسية التي أشتغل بها، في المستويات الدراسية المسندة إلي. وهذا التعامل يجب أن يكون على أساس نظري وعملي رصين. ومفتاح كل ما أطمح أي الاستزادة من المعرفة والنهل من العلم، هو الحصول على بكالوريا أخرى بصفتي مترشحا حرا. بعد سنتي 2013 و2014، تعاملت مع الأمر كهواية. وانتقلت من مرحلة اعتبار شهادة البكالوريا مرحلة لتجديد الفكر إلى مرحلة المتعة والهواية. فقلت في نفسي لماذا لا أجتاز امتحانات البكالوريا من شعب ومسالك مغايرة؟ وستأتي بعد ذلك مرحلة التحول من الحصول على شهادات البكالوريا، إلى العمل على نيل شهادات الإجازة وفي تخصصات مختلفة. وللعلم ففي نهاية هذه السنة، إن سارت الأمور على ما يرام، سأتمكن من الحصول على الإجازة الرابعة في مساري الدراسي. وبهذا تجاوزت التعامل مع الأمر كهواية إلى مسألة النهل العلمي في رحاب الجامعة، وتحقيق المتعة المعرفية والعلمية التي كنت أبحث عنها دائما. ورسالتي من كل ما أقوم به هي رسالة موجهة للجميع، فالتعلُّمُ ليس له سِن، وكم أسعد حين أصادف أثناء تواجدي بالجامعة أشخاصا عادوا إلى صفوف الدراسة ولم يفصلهم عن التقاعد إلا سنة أو سنتان. جانب آخر أود أن أؤكد عليه هو أهمية الاشتغال بالأهداف في حياتنا، فحينما تضع هدفا أو أهدافا في ذهنك وتشتغل عليها فإنك لا محالة ستصل إلى تحقيقها. * ما هي الوصفة التي بواسطتها استطعتم تنظيم الوقت، للموازنة بين التزاماتكم ومشاريعكم الشخصية المُتمثلةِ أساسا في الدراسة والكتابة والتكوين التربوي والعمل الجمعوي؟ ** ليست هناك وصفة سحرية بخصوص الوقت. الكل يدعي أن وقته لم يعد يسمح له بالدراسة والتعلم. لكنني أقول إن الشخص إذا عاد لنفسه، وراجع عاداته اليومية، سيجد بأن أكبر وقته يمكن أن يضيعه في المقهى وفي مشاهدة التلفاز أو ممسكا الهاتف ينتقل بين صور وفيديوهات مواقع التواصل الاجتماعي. قد يستغرق الأمر ساعات طوالا دون أن ننتبه لذلك، لكن حينما تدرس لمدة ساعة أو ساعتين فإنك تمل بسرعة. أي أن الأمر متعلق بشيء داخلي. وما إقبالنا على مواقع التواصل الاجتماعي إلا لأن فيها متعة بالرغم من أنها لحظية وغير حقيقية. والممتع دائما ما يَسْهُل استهلاكه. لهذا علينا أن نحب ما نتعلمه، ونجعله أكثر متعة لكي نُقْبِلَ عليه. وأؤكد مرة أخرى بأن وقتنا كاف لتحقيق ما نطمح إليه، نحتاج فقط إلى التنظيم والاستمتاع بما نحن مقبلون عليه. * وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت قفزة كبيرة، سهلت التواصل عبر الشبكة العنكبوتية. هذا المجال الفسيح، ولجتموهُ من خلال إدارة صفحةٍ على الفايسبوك وقناة على اليوتيوب. هل يمكن أن تحدثونا عن هذا الجانب من اهتماماتكم؟ ** نعم، أدير صفحة على الفيسبوك وقناة على اليوتيوب. وأخصص النصيب الأكبر من المواضيع التي تروج بها، لطرح كل ما هو متعلق بالتدريس في المدرسة الابتدائية، بحكم أنني أستاذ للتعليم الابتدائي لمدة تناهز عشرين (20) سنة، ومؤطر تربوي لما يقارب خمس (5) سنوات. وما لاحظته هو فقر في المضامين المتعلقة بالممارسات الصفية والتطبيقية (داخل الأقسام) خلافا للجانب النظري المتوفر وبكل اللغات. لذلك سرت في هذا الدرب، ومنذ أربع سنوات، أتقاسم مجموعة من الممارسات والأنشطة والوسائل وكل ما يمكن توظيفه داخل الأقسام. وهذا ما أسميه بالسهل الممتنع، مستعملا لإنجازها وتهيئتها مجموعة من الوسائل الموجودة في محيطنا (ورق التغليف، علب الجبن، بلاستيك…). ونفس الشيء أقوم به على اليوتيوب، لما للصورة من أهمية كبيرة في عصرنا، عكس الكتابة. * أتوقف مرة ثانية عند وسائل التواصل الاجتماعي، وعلاقتها بالأطفال والمراهقين، وأتساءل معكم عن الضوابط التي يجب الانتباه إليها من طرف الأسرة، حتى لا تنقلب إلى سبب لضياع الوقت والتأثير السلبي على مستقبل الأبناء؟ ** مواقع التواصل الاجتماعي والأنترنيت بصفة عامة، لها إيجابيات وسلبيات. وعلى الأسر أن تضع قواعد يجب احترامها أثناء التعامل مع كل هذه الوسائل الحديثة، وتقف على كل صغيرة وكبيرة، وتراقب وتنظم وقت ومحتوى التماس ما بين الشاشات وصغارها. ويجب أن نقوم بهذا منذ الصغر إلى حدود خمسة عشر سنة. وكلما بدأنا تنزيل هذه القوانين داخل البيوت، في سن مبكرة كان ذلك أصلح وأسلم للأطفال ولذويهم. لأنه بعد هذا العمر ستترسخ هذه القواعد في ذهن الصغير، وسيلتزم بها حتى في سن المراهقة، رغم أن هذه المرحلة لها أساليب أخرى للتعامل مع الأبناء الذين يصلون إليها. ويبقى الانفلات واردا، ويعالج بحسن التصرف والاتصال بذوي الاختصاص عند الضرورة. والتربية الآن تعتمد على الإعادة والتكرار، لكي تستقر القيم، وترى ملموسة في سلوك الأطفال. ولنا في الصلاة خير مثال، فلقد أمرنا الرسول عليه الصلاة والسلام تعليمها للأبناء منذ السنة السابعة إلى العاشرة، أي ثلاث سنوات من التعلم المستمر والممارسة اليومية. هذا بخصوص الوسط الأسري، لكن لا أنسى كذلك تتبع الأسر لأبنائها وهم داخل المدارس، وذلك بالتنسيق والتشاور الدائم مع هيئة التدريس والإدارة التي تشرف على تأطير فلذات أكبادها. * أنتم من دعاة تقاسم المعرفة مع الجميع، وإبعادها عن منطق الربح والتجارة. واحتراما لهذا المبدأ، تتقاسمون مجموعة من إنتاجاتكم عبر شتى وسائل التواصل. ألا يخاف الأستاذ فصيح من ضياع حقوقه الفكرية؟ ** صحيح هذا ما أومن وأتشبث به. وأقول، علينا أن نشارك ونعمم المعرفة التي تتعلق بالطفل ويؤثر فيه بشكل إيجابي، لتنشئة اجتماعية جيدة، ونمو سليم. وشخصيا لي دعوة لكل من يتعامل مع الطفولة، أن يشارك الآخرين منتوجه، حتى يمكنهم من تعميمه لكي يصل إلى الفئة التي وجه لها، وهم الصغار. ولنا في بعض العلماء والأساتذة الكبار خير دليل على هذا. فاللساني "دي سيسير" وصلت إلينا أفكاره ونظرياته عن طريق تلامذته، إيمانا منه بأن المعرفة وجدت أساسا للتقاسم. ولكن حينما نطالب الناس بالتقاسم والمشاركة، ينبغي للمتلقي أن يتصف بالأمانة العلمية وينسب الأفكار والتجارب التي وصلت إليه لأصحابها. وفي هذا الميدان بالضبط لا أومن بالحقوق الفكرية التي تتعلق بي وبما أنتج. أما الصفحة أو القناة التي أديرها والتي تتيحُ لي سرعة نشر المعلومة، فهي بالإضافة إلى احتوائها على ما أتقاسمه، غنية بإنجازات أستاذات وأساتذة آخرين، يطلب مني البعض منهم عدم الإشارة إلى اسمه. * ختاما، نريد منكم كلمة للتلميذات والتلاميذ المقبلين على الامتحانات الإشهادية عامة، وبصفة خاصة من يسعون للحصول على شهادة البكالوريا لهذه السنة. ** أدعو لابنتي ولكل المقبلين على اجتياز الامتحانات بالتوفيق والنجاح. هي محطة في غاية الأهمية، وستفتح لهم مجالات للتخصص. صحيح لم يبق الوقت للحديث عن تنظيم الوقت، وعن الجانب النفسي المتعلق بالامتحانات. لكنني أود أن أؤكد على عدم اعتبار هذه الشهادة مسألة حياة أو موت. على التلميذ والتلميذة أن يبذلا مجهودهما، ويتقدما للامتحان بكل ثقة، دون كسر هذا التوهج بالتفكير في مستقبل ما بعد البكالوريا. فالحياة تجارب والحياة نجاح وفشل. ولا يجب ربط النجاح في الحياة بالنجاح في امتحانات البكالوريا. ركزوا – وفقكم الله – على الامتحان، وأبعدوا عنكم كل مشوش، قد لا يساعدكم على ذلك.