في هذه الحياة الجديدة. أنا دمية زرقاء. فقدت ساقها.. صادفت نعيمة، حاولت في البداية أن أجد لوجهها الأصفر المنطفئ وعينيها الواسعتين أكثر من اللازم، صدى في ذاكرتي. يبدو أنها تعود إلى زمن بعيد عشته في حياة أخرى. نعيمة تقطن منزلا كبيرا وعاليا بنوافذ بيضاء. رأيتها تعرض بعض الملابس القديمة أمام باب البيت فوق طاولة مهترئة من الخشب. أخبرتني فتاة صفراء أخرى افترضت أنها أختها، أن نعيمة تطلب عشرة دراهم عن كل قطعة لباس.. اقتنيت منها تنورة مبهمة اللون. وأخبرتها أنني تزوجت وأنني أملك الآن الكثير من الخواتم الذهبية أزين بها أصابعي العشرة وأن زوجي يكبرني بثمانية و عشرين سنة. أخبرتني هي أنها عائدة لتوّها من عند طبيب النساء. وأخذت تقشّر بأظافرها الطويلة المصبوغة الجير المتشقق عن جدار المنزل. ثمّ سمعتها تقول بصوت خافت و حزين «إنه سرطان الثدي». - ألله أفتيحة.!! أشاحت بوجهها الأصفر جهة الجدار مرّة ثانية.. أخذ جسدها يهتزّ. وكانت أختها تصحّح لي اسمها. «اسمها نعيمة وليس فتيحة» تحرك جسد ما بجانبي.. وردية».. تسألني إن كنت أحبه.. - زوجي يملك معملا كبيرا للدمى يا وردية. «نعيمة أو فتيحة تطلّ علينا من نافذتها في السماء.. أطلب منها أن تخيط لي ثوبا أسود لأرتديه حدادا عليها عندما تموت.. ثم أرفع تنورتي لأجعلها ترى ساقي الناقصة.. - لا أدري أين ضاعت منّي بالضبط.. كنت أمس في عرس أحد الأقارب ويبدو أن شخصا ما اختلس منّي ساقي وسط الزحام.. سوف أعود هذا المساء لأبحث عنها هناك.. ..هنا أيضا يسقط المطر.. وتسيل المياه في المجاري وتخضّر الأشجار وتجتث أثداء النساء وأرحامهن.. وسيقانهن.. فتيحة تصفق دفّة نافذتها للمرة الأخيرة دون أن تودعني.. أكتشف أن أحدهم أثبت ساقا صغيرة جدا في جسدي.. أفكر أن هذه الساق الغريبة لا تناسبني.. إنها تشبه عضوا تناسليا ذكوريا. يتحرك جسد وردية مرّة أخرى بجانبي.. أفهم أنها ترافقني أو أن طريقنا واحد..كنت أودّ أن أسألها إن كانت لا تزال عذراء.. إن كانت قد اجتازت حياة بأكملها دون أن تفتضّ.. ثم تذكرت أنها كانت تكرهني في الحياة الأخرى.. أذكّرها بذلك.. - أجل أتذكر.. «وردية» الآن أقلّ هزالا ممّا مضى ومؤخرتها لم تعد ضامرة كما في السابق.. أنتبه إلى أن حذاءها الصغير كان ملطخا بالطمي.. نمرّ قرب «السدّ» أتذكر حذائي ..لكن كيف أمكنني أن «أمشي» كل هذه المسافة بقدم واحدة ؟ وردية تطلب مني أن أرافقها عند حبيبها الجديد.. - إنه يذهب إلى البحر..لقد أحببّت خمس مرات و هذه هي المرة السادسة و الأخيرة.. تقول بمرارة.. هي أيضا تعتقد ذلك.. جميع النساء يعتقدن ذلك.. يعتقدن أن كلّ حبّ هو الأخير.. لتطمئنّ أرواحهنّ المعذبة داخل أجسادهن الضاجّة بالرغبة.. أمّا أنا فأرى أنه لا يزال هناك الكثير من الرجال يستحقون أن نحبهم في هذه الحياة كما في باقي الحيوات الأخرى.. تمد لي يدها كي نصعد الصخرة.. أعلى المستنقع، يقرفص تلميذ هارب من درسه.. ليقتل الضفادع، يوجه إلينا صفيرا حادا. أملك قطعة صغيرة من الحلوى في جيب تنورتي.. - لماذا كنت تكرهينني؟ يقتل ضفدعا بحجر ثم يرفعه بعود شوكي ليرينا إياه.. - لماذا كنت تكرهينني؟ يوجه إلينا صفيرا آخر.. أخرج له أصبعي الوسطى.. وأعيد عليها السؤال: - لماذا يا وردية.. لماذا كنت تكرهينني؟ - سوف أخبرك لاحقا.. ليس الآن.. جرّتني خلفها حتى كدت أفقد ساقي الأخرى (إننا نفقد أعضاءنا بسهولة فادحة في هذه الحياة).. الطفل يحب اللعب بالجثث.. البنات يفضلن الدمى. ..في تلك الحياة الماضية.. كنت أحمل معي دميتي الزرقاء إلى الفصل. معلمنا «السي العلمي» كان يأخذها مني خلال الدرس ويلقي بها في خزانة الفصل حيث الدفاتر الملونة.. دفاتر الامتحان كانت بيضاء دائما، ووجنتا «وردية» كانتا حمراوين.. أمي كانت تحب وردية وتدسّ في جيب مريلتها قطعا ملونة من الحلوى.. وكنت أنا أكره ذلك. لم أكن أمكّنها من اللعب بدميتي.. لهذا السبب سرقت مني ساق الدمية وأخفتها في حقيبتها سنة كاملة.. كان ذلك في «بيت الزيرو» عندما «صعدنا» إلى «البيت الثاني» أعادت إلي ساقي.. حبيب وردية لم يصل بعد.. نجلس فوق الصخرة نقلّم أظافرنا الطويلة.. أنتبه إلى يديها.. - أنت شيء ويديك شيء آخر.. كان يقول لها زميلنا الأكثر جاذبية في الفصل.. و كان ذلك يجعل خديها بلون الطباشير الأحمر.. «الحاج الشرقاوي» صديق أبي انتظر حتى مات هذا الأخير ليأخذ يدي الصغيرتين بين يديه الشوكيتين ويتأوّه بصوت عال: «يا ألله... إنهما ليستا يدين.. إنهما قطعتا كعك ميل فوي ساخنتان!!». وردية تبكي لأنه الحب السادس والأخير.. أخبرها أنه لا يزال هناك رجال كثيرون في العالم وأن مؤخرتها لم تعد ضامرة كما في الحياة السابقة.. تلتفت إليّ بحنان مفاجئ.. - كنت أكرهك كثيرا.. لأنه كان يحبك.. صحيح أنه يحب يدي.. لكنه كان يفضلك أنت بما في ذلك يديك وساقيك وابتسامتك وعينيك.. إلى آخره.. ثم تخفض رأسها.. وردية صديقتي المسكينة ظلت تكرهني طيلة حياة كاملة.. - ألا تزالين عذراء يا وردية.. بالرغم من كل هذا الحب؟ ألمح يأسها كاملا في حركة صغيرة من رأسها.. أقترح عليها أن ترتدي أحد خواتمي الذهبية. - إن لذلك تأثيرا سحريا على اليأس.. تمدّ لي يدها.. يدها التي لا تمت بصلة إلى باقي جسدها.. أتناول أصبعها الأبيض الصغير.. وأفكر أنها أجمل يد رأيتها خلال حياتين.. ألبسها أحد الخواتم وأظل أراقب رأسها الصغير.. وردية كانت صديقتي اللدودة وكانت تجلس في المقعد المجاور. في فترة الاستراحة كان «السي العلمي» يجلسنا فوق حجره، يداعب صدرينا الضامرين ويسأ لنا: - متى ستكبران أيتها المعزتان؟! كان يغلق باب الفصل و يحتفظ بنا.. الآخرون كانوا يركضون في ساحة المدرسة.. ولم أخبر أبي.. وردية أيضا بكت ولم تخبر أحدا.. «السي العلمي» كان ضخما وله كرش.. وكان مذاق لعابه مقيتا.. مقيتا.. - كان مذاق لعابه مقيتا.. مقيتا وردية تخفض رأسها.. حبيبها لن يأتي.. أشعر فجأة أنني أحبها.. تفتح عينيها في وجهي.. نظلّ معا نراقب ألما سريا في عيون بعضنا.. للحظة تبدو وكأنها أبدية.. دميتي الزرقاء كانت ملقاة في خزانة الفصل.. أسدلت تنورتي القصيرة فوق فخدي البريئتين.. وأخذتها في حضني.. كانت زرقاء وبساق واحدة.